مقالات الخامسة

الشرق الأوسط المتحوّل وسؤال فلسطين

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

أحمد زكارنة
ليس جديدًا القول إنّ الشرق الأوسط لا يستقرّ طويلًا على حال؛ لكنّ التحوّلات الأخيرة، بما تحمله من إعادة تشكيل للعلاقات الإقليميّة، تُشير إلى تبدّل جذريّ في أولويّات القوى الفاعلة، وتكشف عمّا يتجاوز التبدّل في التحالفات أو الاصطفافات؛ إنّها لحظة الانتقال الأخطر في البنية العميقة للنظام الإقليميّ نفسه.

فمنذ انهيار النظام العربيّ التقليديّ عقب الغزو الأميركيّ للعراق، بدأ تفكّك “الوزن النسبيّ” للقضيّة الفلسطينيّة في الوعي الجمعيّ العربيّ، وتحوّلت فلسطين من مركز إجماع إلى نقطة اختلاف، ومن بند رئيسيّ في السياسات الرسميّة إلى شعار يُستحضر عند الحاجة، ثم يُطوى. غير أنّ السنوات الأخيرة – خاصّة مع موجة السلام الإبراهيميّ، والحروب الممتدّة من اليمن إلى سورية، فضلًا عن القلق المتزايد من إيران – أعادت تشكيل خرائط الاصطفاف ليس على أساس الأمن القوميّ وتحرير الأرض، بل وفق معادلات حروب الردع، والاقتصاد، والنّجاة.

في قلب هذه المعادلات المتحرّكة، يبقي سؤال فلسطين حاضرًا، لكنّه حضور يُستدعى كرمز يُستثمر في الخطاب حينًا، ويُهمّش كعبءٍ على الحسابات الجديدة أحيانًا. ولعلّ أكثر ما يُعبّر عن خطورة هذه اللحظة، ليس تراجع الاهتمام بفلسطين كقضيّة وحسب، ولكن بانفصالها المتزايد عن السياق البنيويّ للطموح العربيّ الجديد، أو المتجدّد، المرتبط بالاستقرار والازدهار، بل وادراجها مرات في سياق صراعات لا تنتمي لها، إن لم تُستخدم ضدّها.

فكيف يمكن فهم هذه التحوّلات في المشهد السياسيّ الإقليميّ؟ وما الذي تعنيه هذه التحوّلات لفلسطين، كقضيّة لا يزال شعبها يُعرّف ذاته في سياق تحرّريّ، بينما يعرّف النظام الإقليميّ ذاته في سياق إعادة التموضع؟ ومن ثمّ، ما الذي بقي من فلسطين القضيّة والمعنى في هذا الشرق الأوسط المتحوّل، وما الذي يعنيه الشرق الأوسط إن غُيّبت فلسطين عن مركزه؟

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

الشرق الراهن من الدولة الوطنيّة إلى التكتّلات الأمنيّة

ما يجري في الإقليم منذ سنوات ليس مجرّد تراجعٍ في مركزيّة الدولة الوطنيّة، بل في الانزياح الشامل عن مفهوم الأمن القوميّ لصالح مفاهيم “البقاء” كبديل للسيادة، و”الردع” عوضًا عن الوحدة، و”التحالفات المؤقّتة” كتعويضٍ عن غياب المشاريع الكبرى. فالدول التي كانت تُعرّف ذاتها من خلال مواقفها القوميّة من فلسطين ومن قضايا التحرّر الوطنيّ، أصبحت اليوم تُعرّف ذاتها من خلال وضعها الاقتصاديّ، وثقافتها الاستهلاكيّة، وعلاقتهما بمستوى علاقات النظام بالولايات المتّحدة الأمريكيّة والصين معًا.

فلسطين، بهذا المعنى، لم تُقْصَ عن الطاولة فحسب، بل أعيد تعريفها كملف أمنيّ؛ في سياق العلاقة القائمة أو المحتملة مع إسرائيل، من دون إحالة الأمر برمّته إلى جذر وجودها الاستعماريّ. هكذا، تحوّلت فلسطين من قضية تحرير إلى ملف تفاوضيّ، ومن مركز للمعنى العربيّ إلى تفصيل في خارطة المصالح.

فلسطين الوظيفة المدرسيّة

بالتوازي مع هذا التفكّك البنيويّ، أعاد النظام العربيّ “دول الاعتدال، وهامشه الممانع” إنتاج الخطابات التبريريّة؛ بعضه يستثمر ولا يزال في خطاب “الاعتدال” لتبرير الضّعف والتبعية، وبعضه الآخر يستحضر شعارات “الممانعة والمقاومة” كغطاء لإعادة إنتاج الهزيمة بطريقة بطوليّة. وفي الحالتين، يتم تسويق الحروب المفتعلة أو التحالفات الهشّة، كضرورة وطنيّة عليا، بينما تُترك فلسطين لمصيرها، تُستخدم رمزًا حين يلزم، وتُدان حين تُذكر بمسؤوليتها عن كلّ مآسي الشرق. ما يعني أنّ أخطر ما في هذه التحوّلات هو أنّ موضوع “القضيّة الفلسطينيّة” لم يعد موضوعًا للتعبير عن الصراع، بقدر ما أصبح مادةً لتجميل الخطاب، وظيفتها المدرسيّة الأولى، أن تبرّر ما يجري، لا أن تغيّره.

الزمن الفلسطينيّ الراهن

في داخل فلسطين، يُواجه الفلسطينيّ تحوّلات مركّبة ومضاعفة، فهو من يعيش التناقض المذهل بين وصفه كبطل، ودوره كضحيّة؛ بطل في الوعي الجمعيّ الإنسانيّ الحاضر، وضحيّة للمشروع الاستعماريّ من جهة، ولغياب المشروع العربيّ أو الشرقيّ من الجهة الأخرى؛ مرّة يُصدّر باعتباره “الإرهابي الأوّل”، وأخرى المقاوم الحرّ المحرج للنظام العربيّ. في هذا الإطار، يبدو وكأنّ الفلسطينيّ يُقاتل على جبهتين، جبهة الاستعمار، وجبهة الإقليم، ما يُحتّم على الفاعل الفلسطينيّ إعادة إنتاج موقعه، لا فقط كمن يُطالب بالحقّ، بل كمن يعيد تعريف هذا الحقّ في زمن تغيّرت فيه معايير الصراع، وخرائط المعنى.

فلسطين من الموقع إلى الدور

ما الذي يعنيه أن تكون فلسطين مركزًا في عالم بلا مراكز؟ وكيف يمكن إعادة تعريف الدور الفلسطينيّ من موقع الشكوى إلى موقع التأثير؟ إنّ ما تحتاجه فلسطين من النظام العربيّ “المعتدل”، ومن هامشه “الممانعة” ليس فقط دعمًا سياسيًّا أو عسكريًّا، بل فهمًا جديدًا لمعناها في الشرق، لا بوصفها ملفًّا مُحالًا من القرن الماضي، ولا باعتبارها شعار خطاب تحرير مؤجّل، بل كاختبار حقيقي ودائم لقدرة الشرق على أن يبقى حيًّا سياسيًّا وأخلاقيًّا، فحين تتخلّى المنطقة عن فلسطين، فهي تتخلّى عن ذاكرتها التاريخيّة ومركزها الأخلاقيّ، وحين تُختزل القضيّة في “البعد الإنسانيّ، يفقد العربيّ آخر ما يربطه بمعاني العروبة، والهويّة، والكرامة.

ختامًا: فلسطين سؤالٌ لا يُمحى

في هذا الشرق المتحوّل، لم تعد فلسطين قلب المعادلة، لكنّها لم تخرج من المعادلة أيضًا. ستبقى هنا، على صفحات الجغرافيا الفلسطينيّة، وهناك في تضاريس التاريخ العربيّ، كسؤالٍ لا يريد أحدٌ أن يجيب عليه، لكنّه لا ولن يزول من ورقة الامتحان، ليس لأنّها السؤال الأصعب، ولكن لأنها وإن استخدمت كأداة لوظيفة، أو شعار لخطاب، ستبقى حاضرة في الوعي، هويّة ومعنى، فيما الشرق المتحوّل، سيبقى متحوّلًا بلا استقرار، ما دام السؤال، وأعني سؤال فلسطين معلقًا بلا إجابة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى