جمال زقوت: ستحقاقات إعادة بناء الحركة الوطنية وبرنامجها التحرري
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
دأب الكثير من الكتاب في المرحلة الأخيرة على تكثيف نقد سلطة فتح الرسمية التي تحكم أو تتحكم بمقاليد الحكم في الضفة الغربية، وكذلك سلطة الأمر الواقع لحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، وتحميل كل منهما مسؤولية استمرار الانقسام الذي دفع بالحالة الفلسطينية إلى مآلات خطرة، حيث مكّن اسرائيل من تفتيت ليس فقط المجال الحيوي والوحدة الترابية التي من المفترض أن تقوم عليها دولة الاستقلال الوطني على كامل الأرض المحتلة منذ عام 1967، بل وما زال يمكّنها استراتيجيًا من تفتيت وحدة مكونات القضية الفلسطينية، ودفع دول القرار الإقليمي والدولي للتسليم بالمقولة الاسرائيلية بأن التسوية السياسية لإقامة دولة فلسطينية في إطار حلّ الدولتين باتت غير ممكنة في المرحلة الراهنة، دون اتخاذ أي خطوات أو اعتماد خارطة طريق جديّة تستهدف تغيير هذا الواقع سواء بالضغط العملي على حكومة بينيت الاستيطانية المتطرفة، لوقف جميع انتهاكاتها الخطيرة التي تتناقض مع القانون الدولي، وتقوّض بصورة مضطردة ما يسمى بحل الدولتين، وترفض الاعتراف ليس فقط بالقيادة الفلسطينية بل وبالشعب الفلسطيني، وتستمر في تعميق حالة الانقسام باستراتيجية باتت معلنة قائمة على تعزيز الصراع المُنهك والمُدمر على الشرعية والتمثيل بين طرفي الانقسام الفلسطيني، وسقوط كلًا منهما في هذا الشرك، وكأن شرعيتهما مستمَدَّة من مدى فشل الآخر، وكذلك تزويدهما بدَفعات من الأكسجين لإبقائهما على قيد الحياة من خلال ما يُسمى “تسهيلات الضفة، والعودة لواقع الحال كما كان قبل مايو الماضي في غزة”، والتي تبقيهما في غرفة الإنعاش للاستمرار في معركة الصراع بينهما على شرعية ممزقة، وعلى حساب قضايا الناس وقدرتها على الصمود، وعلى حساب المسؤولية الوطنية التي يقتضيها موقع الحكم لتلبية احتياجات الناس، بما فيها دورهم في مجابهة مخططات تصفية قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية الثابتة، والإطاحة بالدور الشعبي أو المقاومة الشعبية والإصرار على استبدالهما باستراتيجيات مزمنة الفشل من قبل الطرفين مع ملاحظة الفارق في منسوب وأسباب هذا الفشل لكل منهما.
الخطر الذي تعاني منه الحالة الفلسطينية لم يعد يقتصر فقط على هذا المشهد الانقسامي الذي ينخر الحركة الوطنية، بل وأيضًا ما تتّسم به الأطراف الأخرى منها، والمستقطبة على ضفتي الانقسام من تغييب الذات، أو ما يمكن أن يطلق عليه “قلة أو انعدام الحيلة”، في أيٍّ من مستويات التأثير لتغيير أولويات هذا الواقع الذي يتمأسس يوميًا ليس فقط على صعيد التحكم بالمقدّرات الوطنية، بل وبدرجة متقدمة من طبيعة العلاقات الإقليمية والدولية بما فيها مع اسرائيل الاحتلالية نفسها “هدنة في غزة، وتنسيق أمني في الضفة، وكلاهما مجّاني دون أية شروط لحماية أمن المواطن الفلسطيني من عدوانية الاحتلال وإرهاب مستوطنيه”.
لقد سادت نظرة انهزامية في معالجة هذا الواقع وصلت حد التعامل مع أي اجتهاد للخروج من هذا المأزق البنيوي، مهما كان هذا الاجتهاد فاعلًا وجديًّا. لدرجة أن تم رهن الإرادة والمصلحة الوطنيتين بالخضوع للأمر الواقع من خلال مقولة “هل تقبل حماس أو الرئيس عباس بهذا الاجتهاد؟”، و”كفى المؤمنين شر القتال!”.
فمثلًا الأفكار التي يمكن تسميتها بخطة طريق، والتي سبق وقدمها رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض في أكثر من مناسبة بدءًا من الثلاثين من تموز عام 2014 أثناء الحرب على غزة أمام “Atlantic Council” في واشنطن، وطوّرها أمام مراكز بحث فلسطينية بعنوان “نحو توافق فلسطيني على برنامج عمل مرحلي”، وحتى المقال الذي نشره في مجلة التايم الأمريكية وصحيفتا الشرق الأوسط اللندنية والقدس الفلسطينية في بداية تموز 2020 تحت عنوان “إجراءات الضم الإسرائيلية تستدعي فعلًا فلسطينيًا طال انتظاره”، وما بينهما من جهود ومحاولات جادة لعرض هذه الأفكار شعبيًا، سواء في قطاع غزة صيف 2015، ومراكز دراسات في رام الله على مدار السنوات الماضية، بالإضافة للقاءات مع عددٍ من أطراف الحركة الوطنية بما شمل طرفي الأزمة، واللذين لم يعترضا على أيّ مما ورد فيها، كذلك الأمر في لقائين مع الرئيس عباس في صيف عام 2018، وصيف 2021. و بالتأكيد هناك أفكار أخرى مشابهة أو متقاطعة مع هذه الأفكار لقيَت ذات المصير دون أن يقدم أي بديل لها.
لقد تناولتُ شخصيًا في سلسلة مقالات مضمون هذه الأفكار في أكثر من مناسبة، لدرجة اعتقد البعض أنها باتت مُمّلة لكثرة ما تكررت، وإن من زوايا أو محطات مختلفة؛ ببساطة لأنه لم يتم عرض أي بديل آخر لمضمون هذه الرؤية الكفيلة، لو تم التعاطي بإيجابية معها، باستعادة بناء القدرة الوطنية وتحويل التباينات في البرامج لعنصر قوة يُعزز التعددية التي نحتاجها، وتكامل الأدوار التي نفتقدها، وإلحاحية التصدّي لهموم واحتياجات الناس بما يُنمّي قدرتهم على الصمود عبر خطط تنموية تشرف عليها حكومة وحدة وطنية، والتي لا يمكن أن تنتظر الاتفاق المستحيل على كل شيء، بما في ذلك الخضوع لما يسمى “شروط الرباعية”، التي لم يعد حتى أصحابها يذكرونها، وصولًا لقيادة وقرار وطني مُوَّحد، بدونه لن نستطيع مواصلة قيادة النضال التحرري واستنهاض الطاقات الكامنة لشعب يتوق للحرية والكرامة ولن يتخلى عنهما.
إن جوهر الأزمة الوطنية يتركز ليس فقط في الانقسام بقدر ما هو في فشل برامج الانقساميين وإصرارهم على التمسك بهذا السياسات التي أوصلتنا لما نحن عليه، دون أن يتم من أيّ طرف ثالث تقديم بديل جدي، لا يقتصر فقط على الرؤية البرامجية لهذا البديل، بل وبذات القدر من الأهمية، على بلورة الأداة القادرة على استنهاض الأغلبية الساحقة المتضررة من واقع الحال وتحكّم القوى المهيمنة على المشهد بمصائر الناس على حساب حاجاتها المعيشية وحقوقها الأساسية اللتان تشكلان الركيزة الجوهرية لمقولة ومتطلبات الصمود والقدرة على البقاء ومواجهة مخططات حكومة الاحتلال.
مسؤولية من؟
من الواضح تمامًا أن نظرية إصلاح أو إعادة بناء النظام السياسي من خلال تنظيم انتخابات عامة نزيهة وشفافة، أو من خلال حكومة وحدة وطنية انتقالية تعمل على توفير مناخات ملموسة لإجراء مثل هذه الانتخابات؛ تتعثر ولا تجد آذانًا صاغية سواء لدى الطامحين بخلافة الرئيس من حلقة القرار المحيطة به من ناحية، أو من الاتجاهات المقررة في حركة حماس والتي باتت ترى في تراجع قوة السلطة وانحسار شعبيتها ومكانتها فرصة تُحيي طموحاتها القديمة الجديدة لأن ترث ليس فقط السلطة بل ومنظمة التحرير الفلسطينية والسيطرة الكاملة عليهما وعلى المصير الوطني برّمته.
هذه السياسة الانتظارية التي تستند لحالة التآكل المضطردة والقائمة على التنافس في التجارب البائسة، وليس فقط البرامج الفاشلة، لن تأخذنا سوى لمزيد من السيطرة الاسرائيلية وتآكل الحالة الوطنية الداخلية لدرجة تنذر بالانهيار. أمام هذه التحديات ليس بالإمكان استمرار الصمت أو التنافس المريض بين من يقدموا أنفسهم جزءًا من قوى المستقبل القادرة على إنقاذ المشروع الوطني التحرري، والاجتماعي التقدمي، فبدون التصدي لمهمة إعادة بناء الحركة الوطنية على أساس النقد والمراجعة ومواجهة الإقصاء والتفرد والانفراد بالقرار والمقدّرات الوطنية، والتصدي للانقسام والمحاصصات الانقسامية، واستنهاض الطاقات الشعبية لجميع المتضررين من السياسات الحاكمة الفاشلة دون انتقائية نخبوية أو رغائبية؛ سيكون المصير الوطني برمته أمام مخاطر حقيقية.
وأما كيف يمكن إعادة بناء وتجديد طاقات ومكونات الحركة الوطنية مع الأخذ بضرورة الربط العملي الملموس والدقيق بين مهمتيّ التحرر الوطني والبناء الديمقراطي، وبما يمكّن من التصدي لواقع حال المجتمع، الذي يحشره نظامه السياسي والاجتماعي المتآكل في عتمة قاسية، وبما يمكّن أبناءه ليكونوا قادرين على إخراجه من المأزق الذي وُضِعْنا فيه نحو المستقبل الرحب، فهم وفقط هم من سيخرجوننا من العتمة نحو الأمل. وهذا ما سنناقشه في مقال قادم.