الدولة المدنية والعشائرية السياسية
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
الكاتب: دانييلا قرعان
عند وقوع حادثة معينة خارج نطاق القانون نرى تنافس وتزاحم في توجيه الانتقاد للعشيرة، وكأن ذلك يبين لنا أن العلاقة ما بين القانون والعشيرة هي علاقة متضادة ولا يوجد علاقة تبادلية بينهما. النظام العشائري وجد قبل نشوء الدولة، وهو نظام اجتماعي قائم على تنظيم العلاقات بين أبناء العشيرة الواحدة، وهو نظام يستمد من طبيعة ونمط البيئة والمعيشة السائدة في كل زمان.
” شيطنة العشائر ” دأب البعض على تحميل العشائر والعشائرية ضعف الأحزاب السياسية وعدم قدرتها على مواكبة التغيير، ودأبوا أيضا أن العشيرة تقف دائما ضد سيادة القانون والدولة المدنية، لكن هذا أدعاء غير صحيح ولا يستند الى أدلة لأثباته، وتعوزه الدقة.
الأردن سعى دائما الى ترسيخ قواعد وأسس الدولة المدنية، وهي دولة دمقراطية دستورية وطنية تقوم على بنية أخلاقية وقيمية، وتستند على مبدأ سيادة القانون، والمواطنة، حيث يتمتع جميع المواطنين بحقوق وواجبات متساوية كفلها الدستور الأردني وفق مبدأي المساواة وتكافؤ الفرص دون تمييز بسبب دين او منطقة او عرق، والمعيار الكفاءة والمهنية العالية والانتماء لهذا الوطن.
هنالك أغلوطة حول الدولة المدنية وارتباطها او عدم ارتباطها بالنظام العشائري في الاردن، فالدولة المدنية بمفهومها لا تعني أن تأخذ الالحاد وتحارب الأديان والمنظومة القيمية والأخلاقية للمجتمع، ولا تعني بالمقابل الوقوف ضد العشائر ومحاربة النظام العشائري، وإقصاء أبناء العشائر من تولي بعض المواقع القيادية العليا، فالمعيار هنا كما أسلفت الذكر هو الكفاءة والمهنية والقدرة على الانخراط في العمل ولمس ثمرة الإنتاج، وفي الجانب الآخر لا يجوز للنظام العشائري الخروج على مبدأ سيادة القانون، ومخالفة الأنظمة والتعليمات للنيل من هيبة الدولة الأردنية وإضعاف الوطن وتحقيق مآرب ومصالح شخصية لا تمت للوطن بأي صلة. الدولة المدنية تحارب الإرهاب بكافة اشكاله سواء الإرهاب المسلح او الإرهاب الفكري وهو الوجه الآخر للإرهاب الخشن؛ لأن لكل فعل ردة فعل مساوية له في المقدار ومعاكسة في الاتجاه، فابتزاز الآخرين وإثارة الكراهية والإقصاء المبرمج للكفاءات الوطنية ذات الانتماء العشائري والديني يؤسس لإرهاب مستدام في الدولة يبشر بعواقب وخيمة ويهدد السلم المجتمعي اذا لم نسارع في تبني استراتيجية وقائية وعلاجية لهذه الآفة التي بدأت تلوح بالأفق مخاطرها، فلا دولة مدنية بدون نظام عشائري حقيقي منتمي لهذا الوطن، ولا وجود لنظام عشائري دون تبني أسس وقواعد الدولة المدنية والدمقراطية والدستورية، فكلاهما يكمل الآخر.
العشائر الأردنية لم تكن بيوم معارضة لعملية الاندماج التدريجي والإصلاح السياسي والاقتصادي والدمقراطي، بل رحبت بها، وعملت على الإسراع بوتيرة التقدم والتغيير والإصلاح، ودعمت الدولة ومؤسساتها، وانصاعت لقوانين ودستور الأردن منذ نشأته. أما فيما يتعلق بالدور السياسي للعشيرة لم يشهد الأردن ” العشائرية السياسية” إذا جاز التعبير، ولم تكوّن أحزاب عشائرية كما حصل بالعديد من الدول العربية، وحتى المجاورة منها، بل على العكس تماماً، فقد انخرط جزء من أبناء العشائر في الأحزاب السياسية العقائدية بوصفهم أفراداً وليس لكونهم أبناء عشائر، وساهموا في بلورة الهوية الوطنية المجردة من التبعات التي تعصف وتقتل الانتماء الوطني والسياسية الأردنية بصفتهم الشخصية.
بدأ يبرز دور العشيرة السياسي خاصة بعد حصول تحولات سياسية واقتصادية كبيرة، تحديدا بعد عودة الدمقراطية للحياة السياسية بداية التسعينات، والتحول للقطاع الخاص، والولوج لعصر الليبرالية الاقتصادية، وغياب الأحزاب السياسية الوازنة، وعودة الديمقراطية من خلال الانتخابات ساد الإطار الاجتماعي القرابي المستند على العشيرة، وهنا برز دور العشيرة السياسي وهو دور جديد فرضته التحولات. الدولة الأردنية هي دولة مدنية منذ نشأتها، إذ يؤكد ذلك دستورها من حيث المساواة بالحقوق والحريات وغيرها، ولم تسجل حالة واحدة أن قامت العشائر بالاعتراض على أي مبدأ من مبادئ الدولة المدنية بالرغم من احتفاظ أغلب العوائل الأردنية ببعض القيم الاجتماعية التقليدية.
وأخيرا لا يمكننا ان نقول ان العشائر هي أطر مدنية، لكن النظام العشائري لم يعارض فكرة الدولة المدنية او التحول للدولة المدنية، وكما قلنا ان الأردن دولة مدنية منذ تأسيسه، وبالمحصلة لا يمكن احتكار الدولة المدنية بتيار سياسي او حركة سياسية، وذا نظرنا الى القوى التي تضعف وتقف ضد الدولة المدنية نجدها سياسية واقتصادية تقوم بوضع مصالحها فوق القانون.