شبكة الخامسة للأنباء - غزة
أطفال غزة.. أحلام ضائعة وواقع صعب إعداد: عبير لبد
حَضرتُ مؤخرا عرضًا لمجموعة من أفلام الكرتون المنتجة من قبل أطفال مخيمات النزوح في منطقة المواصى غرب مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، استوقفني أحد الأفلام يحمل اسم “اسباكيتي” للوهلة الأولى ظنتُ يدور حول الوجبة الأكثر توزيعًا في التكيات المنتشرة في مخيمات النزوح، لأتفاجأ بأنه قصة حقيقية لفتاتين توأم في الخامسة عشر من عمرهما.
مرام ومي أبو هيبة، طويلتان ذات بشرة قمحية اللون بفعل شمس الصيف الحارقة، وعيون عسلية، وشعرٌ مائلٌ للأشقر، تبدوان كأصابع الاسباكيتني من بعيد، هكذا يُعبر عنهما أقاربهما والنازحين في مخيم النزوح، لم تُبد أي منهما اعتراضها على اللقب الذي أصبح مُلازمهما طيلة أشهر النزوح.
تعود قصة الفتاتين إلى منتصف شهر كانون ثاني/يناير العام الجاري، حينما تكررت بلاغات الإخلاء من قبل الاحتلال الإسرائيلي لمنطقة مركز مدينة خان يونس حيث تقطنان، فاضطرت العائلة والجيران لإخلاء المنطقة والتوجه إلى الغرب، وأصبح البيت بكل غرفه وديكوراته خيمة من قماش على شاطئ البحر.
الأطفال هم ضحايا الحرب
فرضت الحرب الإسرائيلية المستمرة واقعًا مريرًا على الأطفال في غزة، بدءًا من تعرضهم للقتل والإصابة والفقد والحرمان من أبسط حقوق الطفل أسوة بأطفال العالم، بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني، هناك نحو 1.05 مليون طفل دون سن الثامنة عشر يسكنون في قطاع غزة قبل الحرب الجارية، يشكلون ما نسبته 47.1 بالمئة من سكان القطاع منهم نحو 32 بالمئة دون سن الخامسة 340 ألف طفل، ويعد الأطفال هم الضحية الأكبر خلال الحرب الإسرائيلية المستمرة، تفيد تقارير حكومية فلسطينية أن الأطفال والنساء شكلوا ما نسبته 69 بالمئة من إجمالي ضحايا الحرب المستمرة على غزة منذ 7 أكتوبر العام الماضي.
تمتزج أصوات نداء الباعة مع حركة وأصوات المشتريين وأبواق السيارات مع خليط روائح الخضار والخبز الطازج في دوار النص في منطقة المواصي، المنطقة الأكثر اكتظاظًا، في إحدى زواياه تقفان مرام ومي تتناوبان في المناداة “بسكويت على شيكل، يلا يا بسكويت”.
خلال أشهر الحرب حُمل الأطفال مسؤوليات وهمومًا أكبر من أعمارهم الصغيرة، حيث باتوا يوفرون أساسيات الحياة لعائلاتهم؛ كالمياه والطعام فيما لجأ أعداد كبيرة منهم للعمل من أجل توفير لقمة العيش.
تغيير إجباري
تنحدر أبو هبية من عائلة متوسطة الدخل قبل الحرب، ولكن مع استمرار الحرب الإسرائيلية، توقفت الحركة الإنتاجية داخل غزة، تحول الكثير من الأشخاص إلى عاطلين عن العمل، وارتفعت نسبة البطالة إلى أعلى معدلاتها وصلت 88 بالمئة، وأسرة أبو هيبة من أحد الأسرة التي فقدت مصدر دخلها خلال أشهر الحرب الإسرائيلية المستمرة، في ظل اشتداد مرض والد الفتاتين وعدم توفر الأدوية اللازمة، اضطرت مرام ومي لتحمل مسؤولية عائلتهما والعمل لتوفير مصدر دخل؛ رغم صغر عمرهما.
تقف مي سارحةً بالحالة التي وصلت إليها قائلةً “في لحظات كثيرة أقف أفكر في حالتي، بعدما كنت الطفلة المدللة المستجاب كل طلباتها واحتياجاتها، ها أنا أقف هنا في أكثر المناطق ازدحاماً واكتظاظًا بالناس أبيع البسكويت” بأسي تكمل “لقد تغيرت”، تقاطعها مرام وتقول “إنها الحرب التي غيرتنا وغيرت الناس من حولنا، فلم نعد كالسابق”، تضيف مرام بثقة عالية “أصبحت أكثر جرأةً وشجاعة في مواجهة الأخرين” تنظر إليها مي وتقول بحزن ” رغم التحول الكبير والجذري في شخصيتي إلا أنني أفضل أن أكون تلك الفتاة المدللة والمتفوقة”.
كفاح الروتين اليومي
تقول مرام مستاءة من روتين الحياة اليومي:”تحولت تلبية احتياجاتنا اليومية إلى الوقوف لساعات في طوابير طويلة”، وتضيف مي:” نظرا لضيق الوقت والمسؤوليات الملقاة على عاتقنا، فإننا نقوم بمقاسم الوقوف في الطوابير، أذهب أنا لإحضار التكية، في حين تذهب مرام إلى البسطة والبدء في العمل، أما المياه الصالحة للشرب، فنذهب في الصباح الباكر سويا”، وتعلق مي: “الوقوف أمام التكيات أمر مرهق وصعب يتطلب الوقوف والانتظار ساعة أو أكثر لضمان الحصول على وجبة الطعام”.
في ظل تراجع إدخال المساعدات وعدم توفر الغاز الطهي، والغلاء الجنوني الذي تشهده محافظات قطاع غزة، وشح المواد الغذائية والخضار في الأسواق، يفتقد النازحون الإمكانيات لإعداد الطعام داخل الخيام البدائية في ظروف صعبة، يضطر الكثير من النازحين الاصطفاف للحصول على الطعام من التكيات.
تقوم فكرة التكية على تقديم جهات خيرية ومتبرعين أفراد أو مؤسسات دعم مالي لأشخاص يقومون بدورهم بإنشاء تكية شعبية لتحضير الطعام وتوزيعها على النازحين.
النجاة من الموت
“رحلة إلى الموت” هكذا وصفت مرام نجاتها من القصف الإسرائيلي الذي استهدفَ خِياماً في منطقة المواصي في شهر تموز/يوليو الماضي، وتقول: “حدثَ كل شيء فجأة وتوالت الضربات على الخيام والشارع الرئيس والفرعية”. اعتادت مرام ومي التوجه إلى المحل الرئيس لشراء البسكويت على مقربة من محطة تحلية المياه في المواصي، كان يُفترض أن يكون يومًا عاديًا، ولكن تحولت زرقة السماء إلى غبار ودخان في لحظة، خرجت مرام من أحد المحال التجارية المتواجدة تبحث عن شقيقتها مي، وبعد أقل من ثانية حدثت ضربة أخري، وتوالت الضربات على المنطقة بشكل جنوني وعشوائي.
تُتابع مرام:” كنت بحالة أشبه بالكابوس غير مدركة ما يدور حولي، كان يومًا عاديًا، ولكن تحول إلى يوم الموت، استطعت العثور على مي وسط الفوضى والخوف الذي ملأ المكان، ولكن وجدتُ نفسي غارقة بالدماء حسبتُ أنني أُصبت وبدأت أخذ أنفاسي الأخيرة وكأنني أودع الحياة”.
ارتسمت ملامح الخوف والقلق على الفتاتين وكأنهما تعيشا ذاكرة ذلك اليوم من جديد، تقول مي الحمد لله أننا لم نصب بكروه في ذلك اليوم، وتنظر إليها مرام وكأنها تستدعي خوفها عليها في ذلك اليوم قائلةً: “ألم تصرخي عندما رأيتني ملطخةً بالدماء!، فتجيب نعم، ولكن الحمد لله فداكِ أحدهم وتلقي الشظايا بدلًا منكِ، وعدنا للبيت سالمين”، ضحكت مصححةً “الخيمة وليس البيت”.
ذكريات بين الركام
تتساءل مي: “هل ممكن أن تنتهي الحرب؟، وكيف ستكون الحياة بعد الحرب؟”، تضيف مرام رغم أننا من سكان مدينة خان يونس، إلا أننا، أقصد أنا ومي، لا نملك الجرأة للذهاب لبيتنا المدمر، أو أتجول في المدينة كالسابق، معلقةً أتُرانا خائفتين من رؤية حياتنا وذكرياتنا!”.
بعد أيام من بدء العملية العسكرية الإسرائيلية في مدينة خان يونس منتصف كانون الثاني/يناير الماضي، تم استهداف منزلهم، تقول مرام باستغراب: ” نحن مدنيين لا ننتمي لأي فصيل من المقاومة لماذا قصفوا منزلنا”.
تضيف مي: “كنا أكثر حظًا، لقد استطعنا أخذ بعض الحاجيات من الملابس والمستلزمات والمواد الغذائية من البيت قبل تدميره”، وتردف مرام بحزن: ” لكننا لم نستطع أخذ ذكرياتنا وحياتنا”. اغرورقت عيني الفتاتين حينما تذكرت غرفتهما، واسترجعتا ذكرياتهما في زوايا البيت، توضح مرام أن غرفتهما أكثر الأماكن في بيت يعج بالذكريات والشجارات، وأيام المدرسة والمذاكرة والامتحانات، ولقاء الصديقات وحديث البنات، بتنهيدة طويلة تقولا بنفس واحد: ” اشتقنا لغرفتنا وبيتنا”.
مستقبل مجهول
عند الحديث عن المدرسة، أبدت رغبتهما بالعودة الى مقاعد الدراسة، ابتسمت مرام قائلةً لم يعد وجود للمدارس في قطاع غزة، وتحولت المدارس الصالحة لمراكز إيواء للنازحين من الشمال وغزة، وأيضا للمواطنين أصحاب البيوت المدمرة بفعل الاجتياح البري لمدينة خان يونس، في حين أبدت مي رغبتها للعودة للدراسة من جديد وإن كانت المدارس لم تعد كسابق عهدها قبل السابع من أكتوبر العام الماضي.
وفقا لوزارة التربية التعليم لشهر يوليو 2024 ان 10 الاف طالب و400 معلم استشهدوا في الحرب الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر العام الماضي، وحرم 630 ألف طالب من حقهم في التعليم في المدارس، بالإضافة الى 78 ألف طالب في الجامعات، كما حرم 39 ألف طالب من أداء امتحان الثانوية العامة.
في حين أوضح المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الاونروا) فيليب لازاريني ففي منشور له على مواقع التواصل الاجتماعي، أنه تم تدمير او اتلاف أكثر من 70 في المئة من المدارس الغالبية العظمى من مدارسنا الان عبارة عن ملاجئ مكتظة بمئات الالاف من العائلات النازحة.
أحلام مؤجلة
“حياة النزوح والسعي المتواصل للبحث عن مكان أمان، حجب عن تفكيرنا المستقبل وأحلامنا التي تركناها عند السابع من أكتوبر العام الماضي” تقول مرام، وتضيف مي على كلامها: ” أصبحنا نعيش أعمار تكبرنا، وأننا يفترض أن نعيش طفولتنا التي سرقتها منا الحرب، ولكن الأمل هو من يبقينا على قيد الحياة”.
اجتمعت الفتاتان على بناء غزة من جديد في المستقبل في اتجاهات مختلفة، مي الفتاة الأكثر رقة ونعومة تميل إلى العمارة والرسم، تطمح لاستكمال تعليمها ودراسة هندسة العمارة في المستقبل، قائلةً ” أسعى لإعادة بناء ما حل بغزة من دمار وخراب جراء الحرب، وبشكل أفضل من السابق”، في حين مرام الفتاة القوية الجريئة تسعي لبناء جيلًا جديدًا لنهضة غزة، وتقول ” كنت أحب اللغة العربية في المدرسة، وأحلم أن أكون مربيةً أجيال، وتدريس اللغة العربية”.