مقالات الخامسة

أين فلسطين بعد توقُّف هذه الحرب؟

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

الكاتب: عبد المجيد سويلم
عن سابق وعيٍ وحيطة لم «أُعنون» هذا المقال بسؤال: فلسطين إلى أين بعد هذه الحرب؟ لأن الإجابة عنه تتعلّق بعناصر أخرى ليست على صلةٍ مباشرة بها، في حين إن سؤال: أين فلسطين بعد توقُّف هذه الحرب هو السؤال الذي يضعها في معادلة جديدة أفرزتها هذه الحرب موضوعياً، وبحيث يتحدّد مسار الحالة الوطنية الفلسطينية بالاعتماد على عوامل ليست متوفّرة بعد، وهو الأمر الذي يجعل المصير، والمآل، وحتى الوجهة في طيّ المجهول طالما أنّ الحالة الوطنية لم تنضج بعد في بعدها الذاتي، ولم تتولَّ الحالة الناضجة وطنياً إنضاج بقية عوامل وعناصر توفير ثبات واستقرار وقوّة دفع الوصول إلى مصير وطني محدّد وملموس.
ونبدأ هنا بـ»لكن» كبيرة:
كيف لنا أن نفهم ما أفرزته هذه الحرب، وما فرضته موضوعياً من تموضع فلسطين في قلب معادلةٍ جديدة إذا لم يكن لدينا فهم، من المفترض أن يكون معمّقاً لسياقها، وأهدافها، لكي يُصار إلى تحديد نتائجها، ومدلولاتها.
إذاً لا بدّ أن نبدأ من هنا، ومن هنا بالذات تبدأ الحكاية.
هذه من زاوية الإرادة والرغبة الإسرائيلية أسبق على «طوفان الأقصى» بسنواتٍ طويلة، وربما بعدّة عقود، أيضاً.
والذي حال دون أن تقدم عليها هي الحسابات الأميركية، وليس الإسرائيلية، والحسابات الأميركية كانت تتمحور في خوفها من تداعيات الحرب على الإقليم، والإقليم النفطي تحديداً، ومن ضياع وتلاشي ما كانت قد حقّقته الولايات المتحدة الأميركية من نجاحات كبيرة على صعيد شقّ كامل الإقليم، وتغذية الصراعات البينية فيه على أسس مذهبية وطائفية، وهي صراعات أرادتها أميركا كأرضية ضرورية سيستحيل عليها أن تربحها من دون هذه الصراعات، إضافة طبعاً لمخاوف أخرى تتعلّق بطرق التجارة الدولية، خصوصاً بعد أزمة الانهيار العقاري 2007، 2008 وهو الأمر الذي «أجبر» باراك أوباما في حينه على قبول وتقبُّل الاتفاق النووي مع إيران.
كانت دولة الاحتلال ــ والحق يُقال ــ تحذّر من خطر هذا الاتفاق؛ لأن إيران لن تتوقف عند حدوده إذا جرى أي محاولة للخروج من مسألة البرنامج إلى القدرات الصاروخية والدور الإقليمي لها.
منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم كان «الغرب» يريد كبح جماح إيران في مجال تطوير أنظمة الصواريخ، وفي مجال دورها المتزايد تأثيره في دعم حركات المقاومة حتى وصلت الأمور إلى بناء محور نشط في كل من فلسطين ولبنان وسورية والعراق واليمن، وتحوُّله إلى «وجع الرأس» الأوّل لدى دول الخليج، ولدى عموم ما يسمّى «محور الاعتدال العربي»، وهو «سنّي» الطابع المذهبي، ومن هناك انطلقت الشرارات الأولى لـ»التطبيع»، وبدأت التحالفات العربية بالتجنُّح نحو دولة الاحتلال في مواجهة العدو المشترك «الجديد»، ومن هناك تبرّعت الأخيرة وتعهّدت بأن تقوم بدور «الحماية» وبدور المزوّد للدول بالخبرات الأمنية الإسرائيلية تحت إشراف ورقابة، ومتابعة أميركا مقابل تحاور العرب «واقعياً» للمسألة الفلسطينية، ورفض الربط ما بين هذه العلاقات الجديدة لدولة الاحتلال وما بين مشروطية حلها.
أميركا فشلت في كبح جماح إيران، وازداد «المحور» قوة وقدرة، وزجّت بكلّ قوتها لتدمير سورية والعراق وليبيا والسودان، وهجمت على اليمن، وأدخلت لبنان في أزمات وجودية دون جدوى حقيقية، وكانت النتيجة هي فشل إسقاط سورية، وتعزيز واقع اليمن بسيطرة «جماعة أنصار الله» «الحوثيين» على أكثر من 80% من سكانه وجغرافيته، وأنفق العالم العربي تريليونات متلّلة دون نتيجة باستثناء الحدّ من السيطرة الإيرانية على العراق، وإبقاء السودان وليبيا في حروب لا طائل، ولا مخرج منها، ونجح الجيش المصري في المحافظة على الدولة، وتعزّز دور «حزب الله» اللبناني ودور حركات المقاومة في قطاع غزّة، ولم تنفع الحروب المتتالية في تغيير المعادلات.
باختصار كانت إيران هي كلمة السرّ في دور هذا «المحور»، وكانت قواه هي كلمة السرّ في دور إيران إقليمياً. وفي هذه الأثناء كانت إيران تتسلّح وتزداد قوّتها، ويزداد دعمها ومساندتها لـ»المحور».
وتطوّرت كثيراً وطوّرت في برامجها الصاروخية، وفي تنمية أبعاد برنامجها النووي، وأصبحت تستند إلى قاعدة علمية وتكنولوجية ما فتئت تتطوّر يوماً بعد يوم حتى تحوّلت بالاعتماد على قواها الذاتية أساساً إلى قوّة عسكرية يُحسب لها ألف حساب، ولديها كلّ أسباب ردع الدولة العبرية، وحتى ردع أميركا عن مهاجمتها.
وطوال كل هذه الفترة الزمنية كانت دولة الاحتلال تعدّ العدّة للحرب القادمة، وكانت أميركا تواكب وتنسّق معها كل الخطط، بما فيها «محاكاة الهجوم»، وكانتا معاً تنسّقان تحضير الجبهة الداخلية الإيرانية لليوم الموعود مع إبقاء القرار في واشنطن.
العامل الحاسم في دخول الحرب على إيران ووضعه على جدول الأعمال كان «طوفان الأقصى».
بهذا المعنى أدّعي هنا أنّ «الطوفان» كان أكبر حماية قدّمها لإيران، وكان بمثابة درع الصدّ عنها في مفارقة تاريخية تحتاج إلى الكثير من الجهد الذهني ليس من باب صحة ذلك من عدمه، وإنّما من باب التعمُّق بالكيفيات التي أحدثها في هذه المعادلة.
كانت دولة الاحتلال قد أتاحت إمكانية وقوع «الطوفان» من خلال «قناعة» بنيامين نتنياهو أنّ «حماس» ليست بوارد الحرب، ولا المبادرة بالهجوم، وكانت مخاوفه تتركّز على «حزب الله»، والواقع العربي الراضخ، والانشغال العالمي، خصوصاً الأوروبي بالحرب في أوكرانيا، ومجيء «اليمين» في أميركا إلى الحكم مرّتين، ممثلاً بشخص دونالد ترامب، وكان في المرّة الأولى قد نقل السفارة إلى القدس، وأغدق على دولة الاحتلال بالجولان السوري المحتل، وألغى الاتفاق النووي مع إيران، وتأبّط شرّاً في الدفاع عن دولة الاحتلال في المؤسسات الأممية، ووعد بالمزيد.
«الطوفان» أربك الحسابات الأميركية والإسرائيلية بصورة عميقة للغاية. ففي وطوال عهد جو بايدن جرى التغاضي عن كلّ ممارسات دولة الاحتلال في الضفة الغربية، وتمّ استبعاد فكرة «حل الدولتين» من الناحية العملية، ولحقت أوروبا عملياً، أيضاً، بأميركا في «التغافل» المتعمّد عن ممارسات دولة الاحتلال، وقبلت الأخيرة والعرب معهم، وعملياً أوروبا خطّة «الممرّ الهندي» والذي يخرج فلسطين من الجغرافيا السياسية، بعد عقود على محاولات إخراجها من التاريخ عبر تبنّي «الغرب» للسردية الصهيونية للصراع.
«الطوفان» أجبر دولة الاحتلال على «تأجيل» معركة إيران، وحدّد أولوية الخطّة على القطاع، ثم انتقلت إلى لبنان بعد دخول الحزب على خطّ المساندة، ثم اليمن والعراق، وكان يعدّ العدّة للانقضاض على سورية.
تحطّم جيش الاحتلال الإسرائيلي وأُنهك في غزة، وفقد ثلث معدّاته، وآلاف مؤلّفة من قواته بين قتيل وجريح، ومعوّق جسدياً ونفسياً، وفشل في تحقيق أهدافه، وهرب إلى الجبهة اللبنانية أملاً في تحقيق نتائج حاسمة بالاستناد إلى خطّة «البيجر» وأجهزة اللاسلكي التي كانت قد أعدّت من سنوات، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً في المواجهة البرّية، ولم يحصل على وقف إطلاق النار إلّا بسبب أن الحزب قد استنفد كل طاقاته ووصل إلى حافة المغامرة بالدولة اللبنانية كلّها، وهو أمر أجبره في نهاية المطاف على وقف استمرار الدعم للمقاومة في القطاع.
حقّقت دولة الاحتلال نجاحات كبيرة في غزة ولبنان، ولكنها ليست حاسمة، ولا توفّر له الانتصار المطلوب، وبقيت صورتها الحقيقية هي صورة الإجرام والإبادة وارتكاب الفظائع، وانتفض العالم كلّه في وجهها.
الإنجاز الأكبر كان سقوط سورية في يد المتحوّرين عن «داعش» و»النصرة»، وانهيار جيشها وتسليم سورية كلّها لهيئة الأركان الحربية الإسرائيلية من أجل إبادة مقدّراتها عن بكرة أبيها، بالتعاون التام، والرضوخ الكلّي التركي لهذه الإبادة والتدمير في مشهد لم يسبق له مثيل.
هنا وأمام الفشل الأميركي والإسرائيلي بعد أكثر من عشرين شهراً من حرب على الأطفال والنساء والمرافق وافقت أميركا على مهاجمة إيران، علّها تكون الضربة القاضية التي تطيح بالنظام، والذي من خلال سقوطه ستتساقط الحلقة الفلسطينية، وكذلك اللبنانية على طريقة الحلقة السورية لكي يُصار إلى حسم المعركة مع اليمن، وحتى ضدّ ميليشيات العراق الموالية لـ»المحور»، ومن هناك يولد «الشرق الأوسط الجديد».
فشلت الحرب الأميركية الإسرائيلية على إيران، ولم يسقط النظام، وحافظت الأخيرة على مقدّراتها وقدراتها، وما تدمّر منها ليس أكثر ممّا تدمّر في دولة الاحتلال، مع فارق خصوصية المجتمع الإسرائيلي وانكشافه لأوّل مرّة أمام الصواريخ الإيرانية واستباحة مدنه وتجمعاته ومراكزه وقواعده.
هنا قامت إيران التي كانت تعدّ نفسها لهذه الحرب بإيقاف المشروع الأميركي الإسرائيلي عند حدود طاولة المفاوضات، وليس أمام أميركا ودولة الاحتلال غير طاولة المفاوضات، وفلسطين موضوعياً انتقلت من حرب الإبادة والتهجير و»حرّية» الإجرام الإسرائيلي المفتوح بحقّ شعبها إلى الطرف الذي من دون حل قضيته لن يتسنى لترامب ولا لدولة الاحتلال أن يحافظا على نصف ما أنجزاه، وبكل الأثمان التي دفعوها، خصوصاً الأخيرة التي خسرت كل شيء باستثناء صورة القاتل والمجرم والمنبوذ.
أما أميركا فقد انكشفت تماماً وأصبحت من زاوية حقيقة ما هي عليه وحقيقة ما تعانيه، أصبحت مرّة مسلّية، ومرّة مضحكة وغالباً بهلوانية.
لقد ثبت لكل عاقل أن أميركا ضربت المفاعلات النووية الإيرانية وهي تعرف مسبقاً أنه لا يورانيوم، ولا مواد مشعة في المفاعلات، حيث يجمع المختصون أنه من المستحيل ضرب مفاعل، والوصول إلى أعماقه، وتدمير اليورانيوم المخصّب فيه بالكمّيات التي تتحدث عنها الوكالة الدولية للطاقة الذرية دون أن ينتج عن هذه الضربات موجات ذرّية مشّعة قاتلة على مساحات كل منطقة الخليج، وربما التلوّث النووي على مساحات تطال المشرق العربي كلّه.
ولهواة المسرحيات والمسرح أقول: إننا سنكتشف قريباً، كلّنا معاً أن المسرحية الوحيدة في هذه الحرب كانت المسرحية التي تحدث عنها ترامب ونتنياهو من قبله ومن بعده عن تدمير البرنامج النووي الإيراني.
هذه حرب غيّرت المعادلات، وفلسطين عائدة إلى مركز الصراع. في المقالات القادمة سنحاول استكمال هذه الحقيقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى