مقالات الخامسة

إيران بين إستراتيجيتين

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

الكاتب: مهند عبد الحميد

منذ عقود بدأ مسار «السلام الأميركي» يشق طريقه ويدخل حيز التطبيق وينتقل من بلد الى آخر عبر اتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو والاتفاقات الإبراهيمية. لم يجذب هذا النوع من «السلام» شعوب الدول التي أبرمت الاتفاقات بعد ان اكتشفت زيف الحلول الاقتصادية والتنموية، ولأنه جاء على خلفية إعادة بناء علاقات التبعية والهيمنة الأميركية الإسرائيلية في عموم المنطقة، كما أنه لم يضع حدا للحروب، بل زاد من انتشارها كحرب اجتياح لبنان في العام 1982، وحرب غزو العراق 2003، وحرب تعميق بنية الاحتلال والاستيطان في الأراضي الفلسطينية. قدم هذا النموذج من «السلام» المعزز بجشع التوسع الإسرائيلي، وبفساد السلطات السائرة في فلك السلام الأميركي نموذجاً مشجعاً لمحور الممانعة والمقاومة الإسلامية الذي تقوده إيران، الرافض للحل السياسي، وقد اختلطت أيديولوجيته الدينية التي تتبنى حسم الصراع وهزيمة إسرائيل، بالاستخدام التكتيكي للورقة الفلسطينية على قاعدة إفشال الحل السياسي، بخطاب شعبوي وثقافة تقدس المقاومة وتنتشر داخل المجتمعات العربية وبخاصة داخل المجتمع الفلسطيني بمساعدة فضائية الجزيرة التي أوصلت هذا التحول الى كل بيت. وفي المحصلة وُضع المجتمع الفلسطيني والمجتمعات العربية أمام خيار المقاومة أو خيار الاستسلام المهين لإسرائيل وأميركا. وكان من الطبيعي أن يفوز خيار المقاومة في مواجهة خيار الاستسلام المذل اللصيق «بالسلام الأميركي- الإسرائيلي». بدت المقاومة وكأنها السلاح السحري الذي سيأتي أكله في زمن قريب، لكن المقاومة قُدمت بدون رؤية او استراتيجية تحول الناس من مشجعين الى مشاركين وتضع أهدافاً وطنية محددة قابلة للتحقيق. كان من السهل حشد الأسباب والمبررات لبناء مزاج شعبي كاسح مع المقاومة، يكفي تقديم ثنائية احتلال مقاومة للانحياز مع الأخيرة في غياب وعي وجدال يكشف المستور ويضع النقاط على الحروف.
كان هدف الكفاح المسلح الذي قادته فتح ومنظمة التحرير تحرير فلسطين، وعندما أخفق انتقلت المنظمة الى أشكال نضال أخرى، لكن مرحلة الكفاح المسلح حققت إنجازات سياسية كبيرة مثل ( تكوين هوية وطنية جامعة، وقرار فلسطيني شبه مستقل، وكيانية فلسطينية، واعتراف عربي ودولي بالمنظمة كممثل شرعي وحيد، وبالحقوق المشروعة المعرفة في هيئة الأمم المتحدة وبخاصة حق تقرير المصير وإنهاء احتلال 67 وإقامة دولة مستقلة). مقابل ذلك، أعلنت حماس انها ستحقق ما فشلت في تحقيقه المنظمة، وقدمت موقفاً مختلطاً يقول من جهة ان وجود إسرائيل غير شرعي وهي لن تعترف به، وتحرِّم التنازل عن أي سنتميتر من أراضي فلسطين التاريخية. وتحدثت في مؤتمرات «وعد الآخرة» عن مرحلة ما بعد إسرائيل. تتشارك إيران وأذرعها في رفض وجود إسرائيل، بل تتحدث إيران عن عزمها إزالة إسرائيل وتدميرها في سبع دقائق. ومن جهة أخرى تبنت حماس في العام 2017 إقامة دولة فلسطينية في أراضي 67 بدون اعتراف بإسرائيل، فقط مقابل هدنة طويلة الأمد. ينبع موقف حماس المزدوج من وجود اتجاهين في مركز قيادتها، تجاه الإخوان المسلمين البراغماتي الذي يسعى الى السيطرة على مركز القرار والتمثيل الفلسطيني باستخدام سحر المقاومة وأفضليتها، وحينئذ لن يتردد هذا الاتجاه في إبرام صفقة تكرس حكم حماس للمجتمع الفلسطيني وامتداداته الخارجية، بمعزل عن حل المسألة الوطنية. واتجاه ثانٍ قاده السنوار يتبنى الأيديولوجية الخلاصية المدعومة من الحرس الثوري ويسعى الى حرب ينتصر فيها على إسرائيل، وقد جاء هجوم 7 أكتوبر «طوفان الأقصى» ليؤكد غلبة اتجاه السنوار. فات السنوار ان أجندة النظام الإيراني تدور حول موقع ونفوذ إيران الإقليمي الذي ترجمها بالسيطرة على 4 عواصم عربية بعد تفكيك دولها، ويخوض الصراع مع إسرائيل وبمستوى أقل مع أميركا من أجل إقرار نفوذه، مستخدماً القضية الفلسطينية كعنصر استقطاب وورقة ضغط لتحسين شروط تبوُّئه المكانة الإقليمية. ولم يكن النظام الإيراني معنياً بتحرر وتقدم الشعب الفلسطيني ولا الشعوب العربية، وقد صب جام غضبه على إسرائيل التي ترفض وجود أي منافس إقليمي في طول وعرض منطقة الشرق الأوسط وتسعى الى إخضاع دول وشعوب المنطقة.
منذ 7 أكتوبر وهجوم طوفان الأقصى وُضعت استراتيجية محور المقاومة الاسلامية بزعامة إيران على المحك، وقد انكشفت اختلالاتها من الوزن الثقيل ومن أبرزها:
• إعلان المرشد الأعلى على خامنئي ورئيس الجمهورية مسعود بزشكيان انتصارهما على إسرائيل وأميركا بعد معركة الـ 12 يوماً. دائماً تقفز إيران عن ميزان القوى المختل بمستوى فادح لمصلحة أعدائها، الاختلال في كل شيء له صلة بالأسلحة والاستخبارات وموازنات الحرب والحلفاء. كيف تنتصر إيران وهي لا تملك سلاح جو، ولا منظومات دفاع جوية، في مواجهة أحدث آلة حرب ضخمة تخص إسرائيل وأميركا ودول غربية أخرى، كانت الطائرات الإسرائيلية تسيطر على السماء الإيرانية بدون أي اعتراض إيراني يذكر. الانتصار الإيراني تفنده نتائج الحرب سواء لجهة الخسائر التي لحقت بالطرفين أو لجهة شروط وقف إطلاق النار، والتعامل مع إدارة ترامب كخصم وحكم ووسيط في وقت واحد، هذا ما كشفه الرد الصوري الإيراني على قاعدة العديد الأميركية في قطر. وأكدته عناوين التفاوض بعد الحرب وهي منع امتلاك إيران للسلاح النووي، وإنتاجها لأسلحة دمار شامل، وتوقف إيران عن دعم إعادة بناء الأذرع الإيرانية. صحيح ان إيران اخترقت بصواريخها العمق الإسرائيلي وألحقت دماراً غير مسبوق، لكنها لم ترقَ الى مستوى ردع العدوان، وكانت تستطيع مواصلة حرب استنزاف لمدى زمني أطول، ولكن بثمن فادح قد يطال بقاء النظام. في هذه الحرب كما في الهجمات المتبادلة لم تستطع إيران تكريس مستوى من الردع يجعلها قادرة على مواصلة برنامجها النووي.
• هل سيستخلص النظام الإيراني الدرس؟ بدءاً بفشل استراتيجيته التجريبية المقامرة عبر مقاومة إسلامية خلاصية، مروراً بتغيير الخطاب الشعبوي الديماغوجي الذي لا يحترم العقل وهو يتحدث عن انتصارات، ويقدم الوعود بإزالة وتدمير إسرائيل في الوقت الذي يساوم فيه على بقائه في إطار الهيمنة الأميركية، وانتهاءً بإقراره فشل استبدال الدولة في اربعة بلدان عربية بمليشيات مسلحة ورطت شعوبها في حروب مدمرة وحرب إبادة في قطاع غزة، واعترافه بفشله في الدفاع عنها وهي تتعرض لخطر التصفية، وبفشل قيامها بوظيفتها في الدفاع عن النظام الإيراني أثناء تعرضه للهجوم.
• اعتراف النظام الإيراني بفشل استراتيجيته لا يعني استسلامه للتوحش والهيمنة الأميركية الإسرائيلية، بل الانتقال الى أشكال جديدة من مقاومة الهيمنة، كمتابعة إيران لبرنامجها النووي المدني واستخداماته السلمية من خلال الالتزام بمعاهدة الحد من انتشار السلاح النووي، وبقائها عضواً في الوكالة الدولية للطاقة رغم انحيازها للرواية الإسرائيلية كما تقول طهران. والانتقال من حالة القول بتدمير إسرائيل الى حالة من الفعل ودعم نضال الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال وتقرير مصيره، ودعم وحدة الشعب الفلسطيني بدلاً من دعم انقسامه.
• انتقال إيران من استراتيجية المقاومة الإسلامية الفاشلة بكل المقاييس، الى استراتيجية إعادة بناء إيران باستراتيجية واقعية ضد العدوان والهيمنة والتسلط، يمر عبر رفع القبضة الأمنية التسلطية للنظام الثيوقراطي عن الشعب الإيراني ونخبه السياسية والثقافية الديمقراطية، وعبر نضال الشعب الإيراني بمختلف انتماءاته العرقية والسياسية من أجل إيران ديمقراطية حرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى