اليوم التالي للحرب … لا خيار سوى الصمود والانتصار
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
شبكة الخامسة للأنباء _غزة
بقلم: هاني المصري
تدخل الحرب على الفلسطينيين يومها الثامن عشر، ولا تزال عملية الإبادة مستمرة؛ إذ بلغ عدد الشهداء في قطاع غزة حتى الآن أكثر من 5000 (من بينهم 2055 طفلًا وأكثر من 1119 امرأة)، والجرحى نحو 15000، إضافة إلى أكثر من 1500 مفقود تحت الركام، بمعدل 50 شهيدًا وجريحًا كل ساعة، فضلًا عن 95 شهيدًا في الضفة الغربية ونحو 1700 جريح، واعتقال الآلاف، من ضمنهم عمال غزيين داخل الأراضي المحتلة.
أما على الجانب الآخر، فقد سقط خلال الحرب وفقًا للمصادر الإسرائيلية 2000 ما بين قتيل وأسير ومفقود، وأكثر من 5000 جريح، منهم 1200 جندي معاق، وعشرات الحالات الميؤوس منها، ومئات الحالات الخطرة، إضافة إلى تدمير فرقة غزة في جيش الاحتلال بالكامل، وهجرة مئات الآلاف من المستوطنين من غلاف غزة ومن داخل إسرائيل، فضلًا عن تعطيل الاقتصاد الإسرائيلي بشكل كبير.
كما دمّر طيران الاحتلال مئات البنايات والأبراج؛ إذ تم حصر أضرار متفاوتة في أكثر من 165 ألف وحدة سكنية (حوالي 50% من الوحدات السكنية في قطاع غزة)، بينما هناك 20 ألف وحدة سكنية هدمت كليًا أو باتت غير صالحة للسكن. وبات 70% من سكان القطاع (نحو 1.4 مليون) خارج منازلهم قسريًا في مراكز إيواء.
كما أن الحرب البرية لم تبدأ بعد، بينما تشهد الجبهة الشمالية تصعيدًا مدروسًا؛ إذ خلف التصعيد هناك 26 شهيدًا من حزب الله وأكثر من 40 قتيلًا إسرائيليًا.
أما على صعيد الحراك الدبلوماسي، فقد فشلت الإدارة الأميركية في استخدام مجلس الأمن، كما أفشلت صدور قرارات متوازنة، حتى بخصوص هدنة إنسانية؛ إذ استخدمت الفيتو الأميركي مرة ضد مشروع القرار البرازيلي، والفيتو الأميركي البريطاني الفرنسي مرة أخرى ضد مشروع القرار الروسي، والفيتو الروسي المرتقب ضد مشروع القرار الأميركي الذي يتضمن إدانة حركة حماس وما يسمى “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، والمطالبة بإطلاق سراح الأسرى من دون شروط.
كما فشلت قمة السلام التي عقدتها مصر نتيجة الخلافات بين مجموعتين: يقف في الأولى الغرب أساسًا الذي يشارك أو يغطي على حرب الإبادة، ويقف في المجموعة الثانية العرب أساسًا الذين يعارضون التهجير ويقفون عاجزين أمام استمرار العدوان ومن دون أن يفتحوا معبر رفح؛ لأن إدخال 20 شاحنة ثم 15 شاحنة منذ بدء الحرب حتى الآن لا يسمى فتحًا للمعبر، بل ذرًا للرماد في العيون، فقطاع غزة كان يدخله يوميًا 500 شاحنة تضم الطعام والشراب والوقود ومختلف الحاجات الإنسانية والمعيشية والطبية، ويحتاج حتى يعيش في الحد الأدنى إلى دخول 200 شاحنة على الأقل يوميًا.
يجب أن يكون هدف كل التحركات على كل المستويات وقف الحرب فورًا أولًا وثانيًا …. وعاشرًا، قبل مواجهة خطر التهجير وتوفير المساعدات الإنسانية؛ لأن وقف الحرب هو الذي يؤدي إلى وقف التهجير وتدفق المساعدات الإنسانية. أما استمرار الحرب في ظل استمرار معدلات القتل الرهيبة (ما يزيد على 300 شهيد يوميًا)، فهو الذي يفتح الباب أمام التهجير والكوارث الإنسانية.
أهداف الحرب
لا تزال إسرائيل مرتبكة إزاء الهدف السياسي من الحرب، وتعيش حالة من الفوضى، لدرجة أن هناك مطالبات متزايدة باستقالة نتنياهو وتحمله مسؤولية الحرب، يغذيها الخشية من أن مصالحه الشخصية هي التي تدفعه إلى إطالة الحرب واتخاذ قرارات متهورة، وهذا يحصل لأول مرة أثناء الحرب، ففي العادة كانت المساءلة والحساب يجريان بعد انتهاء الحرب، كما حدث مع غولدا مائير، التي استقالت بعد أشهر عدة من حرب أكتوبر 1973.
ففي البداية تم التصرف على أساس أن الهدف محو قطاع غزة عن الوجود، من خلال تهجير سكانه إلى صحراء سيناء تطبيقًا لخطة قديمة جديدة طرحت في العام 1953 لأول مرة، وتجددت في أعوام 1968 و1970 و2000 و2010 و2012 و2018، وفشلت سابقًا ويمكن إفشالها مجددًا.
وتبلورت خطة التهجير استنادًا إلى مشروع غيورا آيلاند، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق، الذي طرح فكرة مشروعه في العام 2000، وتبلور في العام 2004، وطُرح كاملًا في العام 2009، الذي يقوم على توسيع قطاع غزة على حساب سيناء مقابل أرض من النقب تضم إلى مصر. ودعا منذ أيام إلى تهجير القطاع كله إلى سيناء مؤقتًا، وعودة النازحين بعد القضاء على المقاومة.
هناك متغير في الخطط المطروحة الآن، يتمثل في تقليص مساحة قطاع غزة، وإقامة مناطق عازلة تكبر أو تصغر وفق المتبني لها بين من يريد قطاع غزة كله منطقة عازلة، وبين من يكتفي بتوسيع المنطقة العازلة عشرات الكيلومترات أو أكثر.
وإذا كانت خطة تهجير غزة جمدت أو حتى فشلت مؤقتًا جراء المعارضة العربية والدولية، خصوصًا المصرية والأردنية، فهي استبدلت بخطة تهجير شعبنا من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، وإذا استمرت الحرب البربرية لأسابيع أو شهر أو شهرين أو ثلاثة، كما قال يوآف غالانت، وزير الحرب الإسرائيلي، وفي بعض التقديرات لسنوات، كما قال بيني غانتس، الوزير العضو في المجلس الحربي ورئيس المعسكر الصهيوني (الحزب الصاعد في الحرب الحالية، والذي يحظى بثُلث مقاعد الكنيست الإسرائيلي في الاستطلاعات)، للرئيس الأميركي أثناء مشاركته في اجتماع أركان الحرب الإسرائيلية، مع استمرار دخول المساعدات الإنسانية بالقطارة واقتراب فصل الشتاء، واستمرار حرب الإبادة، وفي ظل استهداف القصف للذين نزحوا من الشمال إلى الجنوب فقد يصبح التهجير أمرًا واقعًا؛ لأنه سيكون وسيلة لبقاء الغزيين على قيد الحياة.
أما هدف تصفية حركة حماس فغير واضح كيف ستسعى إسرائيل إلى تحقيقه، فهناك من يفسره بإسقاط حكمها وإنهاء قدرتها على المقاومة، وهناك من يقصد القضاء عليها حرفيًا، وهناك من “يتكرم” ومستعد لتوزيع مقاتلي وقيادة وكوادر وأعضاء “حماس” على الدول العربية، مثلما حصل بعد الغزو الإسرائيلي للبنان حين وزعت قيادة المنظمة وكوادرها ومقاتلوها على عدد من الدول العربية، متناسيًا أن المقاومين في وطنهم وبين أهلهم، وأنهم بدؤوا الحرب لأول مرة بنصر تاريخي.
يخدع هؤلاء أنفسهم حين يتصورون أن الانتصار الإسرائيلي الحاسم قادم حتمًا، ويتجاهلون أن لا أحد يستطيع هزيمة مقاومة شعب مصمم على البقاء والصمود والمقاومة حتى تحقيق أهدافه وحقوقه الوطنية، فيمكن إضعافها، ولكن لا يمكن هزيمتها، والطرف الضعيف ينتصر إذا لم يحقق الطرف القوي أهدافه.
إدارة مؤقتة، أم عودة السلطة إلى القطاع، أم ماذا؟
نشطت مراكز الأبحاث الأميركية والإسرائيلية (مثل معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ومركز أبحاث الأمن القومي وغيرهما الكثير)، وفصّلت ما يتم تداوله في أروقة السياسة والنخبة الإسرائيلية من وزراء حاليين وسابقين، أمثال أفيغدور ليبرمان الذي دعا هو وداني أيالون وغيرهما الكثير إلى تهجير شعبنا إلى سيناء؛ حيث تختلف الآراء بينهم حول إستراتيجية اليوم التالي للحرب؛ إذ هناك شبه إجماع بأن إسرائيل (وهناك موقف أميركي معلن عبر عنه الرئيس الأميركي جو بايدن برفض احتلال القطاع والموافقة على القضاء على “حماس!”) لا تريد احتلال غزة والبقاء فيها، فقد جربت هذا الخيار وانسحبت من القطاع الذي عاد إليها مقاومًا، وأوقع فيها يوم السابع من أكتوبر هزيمة ساحقة لم تلحق بها من قبل.
هل تعود السلطة إلى غزة؟
هناك خلاف إسرائيلي أميركي وأميركي أميركي وإسرائيلي إسرائيلي بين من يريد تأهيل السلطة لكي تكون قادرة على حكم غزة بعد هزيمة المقاومة، والمقصود هنا تحويلها إلى سلطة عميلة بالكامل، وبين من يرفض عودتها، إما لأنها (أي السلطة) فاسدة وعاجزة ولا تملك الإرادة والقدرة على تنفيذ المطلوب منها، وفشلت في الضفة وستفشل في غزة، لذا لا بد من تأهيلها أو إعادة بنائها أولًا قبل التفكير في إعادتها إلى غزة، أو لكون عودة السلطة مرفوضة بشكل كلي؛ لأنها تعيد ربط الضفة بالقطاع، وتحيي الأمل مجددًا بإقامة دولة فلسطينية بعد أن نجحت الحكومات الإسرائيلية في الفصل بينهما، ودفنت خيار إقامة الدولة الفلسطينية أو ما يسمى “حل الدولتين”.
لا أحد تقريبًا يتحدث في المشاريع المطروحة حاليًا، داخل أميركا وإسرائيل، عن حل الدولتين الآن، بل يطالب أنصاره بإبقاء الأفق السياسي مفتوحًا، بحجة أنهم سيحققونه في الأمد البعيد، وهم مخادعون؛ لأن تمسكهم اللفظي بحل الدولتين يهدف إلى تسليح حلفائهم العرب بموقف يستخدمونه أمام شعوبهم، في حين أن طرحه يساعدهم عمليًا على تحقيق الأهداف الإسرائيلية، ولا يفتح الطريق أبدًا أمام حل الدولتين، بل يردم إذا هزموا المقاومة التراب على قبره.
هزيمة العدوان فقط هي التي تفتح الطريق للأفق السياسي وإنجاز الحرية والاستقلال، وكذلك لمفاوضات تنطلق من موقع القوة وليس من الضعف والتخاذل والاستسلام.
وفي نهاية هذا الجزء نطرح التساؤل الآتي: هل تقبل السلطة العودة إلى قطاع غزة على ظهر دبابة إسرائيلية؟ مع أنها إذا فعلت ذلك لن تكون سلطة وطنية ولا تمثل الفلسطينيين، وإنما تتحول إلى سلطة لحدية بالكامل.
السلطة أمام لحظة الحقيقة
ساعد إسرائيل على السير على تحقيق أهدافها استمرار الانقسام الفلسطيني، ومواصلة سير القيادة الرسمية وراء الأوهام الخاطئة والرهانات الخاسرة التي أوصلتها إلى التعايش مع الأمر الواقع الذي يخلقه الاحتلال، والذي لا يوجد فيه أفق سياسي ولا مفاوضات ولا حل نهائي، وإنما سقفه أمني اقتصادي، ومن شروط تسليم غزة للسلطة – عند من يوافقون على ذلك – أن تغادر موقف الحياد الذي اتخذته منذ اندلاع الحرب وعدم إدانتها “حماس” إدانة صريحة، وتفعيل التعاون الأمني وسياستها ضد المقاومة والمقاومين.
ولا نبالغ إذا قلنا إن القيادة الرسمية ستقفد ما تبقى لها من شرعية وشعبية ومصداقية ما لم تغادر موقف الحياد، و”رفض استهداف المدنيين من الجانبين”، و”المطالبة بإطلاق سراح الأسرى من دون شروط”، و”نزع الغطاء عن الفصائل المقاومة”، بذريعة أن المنظمة وحدها تمثل الفلسطينيين، وهذا صحيح ما دامت المنظمة تقوم بدورها في الدفاع عن مصالح الشعب وأهدافه واللحاق به في مواجهة حرب الإبادة التي لا تستهدف “حماس” كما يدعون، بل تصفية القضية الفلسطينية، وما دامت حريصة على الاحتكام إلى الشعب عبر انتخابات دورية منتظمة، وعلى التوافق الوطني حينما يتعذر إجراء الانتخابات.
ويتجسد الموقف الفلسطيني المطلوب والمتوقع من خلال انخراط كلي أو متدرج في الدفاع عن الشعب وفي الحرب، مثلما يفعل حزب الله، وذلك بالبدء بتطبيق قرارات المجلسَيْن المركزي والوطني وقرارات الإجماع الوطني، التي تنص على سحب الاعتراف بإسرائيل، ووقف الالتزام بجميع التزامات أوسلو السياسية والاقتصادية والأمنية، والشروع الفوري في حوار وطني شامل في القاهرة للاتفاق بسرعة على إستراتيجية واحدة وقيادة مؤقتة تمكّن من تقديم موقف موحد فاعل يُمكّن من تجاوز المغامرات والتخاذل، وتُقدّم المنظمة بوصفها الممثل الفلسطيني بأقوى وأفعل صورة إلى حين إعادة بناء مؤسساتها لتمثل مختلف ألوان الطيف السياسي، إضافة إلى تغيير السلطة لتكون أداة في خدمة المنظمة والبرنامج الوطني المشترك.
إن الإقدام الفوري على هذه الخطوات يقطع الطريق على تحقيق أهداف العدوان، ويضاعف من احتمالات النصر وإمكاناته. أما استمرار الموقف الحيادي على حاله بحجة تجنيب شعبنا الكوارث فلن يحقق ذلك، بل سيدفع إلى زيادة الضغوط أكثر للاستجابة للمطالب الأميركية والإسرائيلية التي تحث السلطة على عدم الاكتفاء بالحياد وضبط الضفة (ارجع إلى مقال غيث العمري المعنون بـ “كيف خذلت “السلطة الفلسطينية” شعبها؟”، والمنشور على الموقع الإلكتروني لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، بتاريخ 19 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)، بل عليها الانحياز وإدانة “حماس” إدانة صريحة، ورفع الغطاء عنها وعن المقاومة بشكل كامل، والتحول إلى سلطة عميلة كليًا.
فليس من المبالغة في القول إن الخطط الموضوعة للتهجير والضم والتهويد تشمل الضفة أيضًا، ومناطق 48، وما يحدث في الضفة من إغلاق واعتقالات واعتداءات همجية من المستوطنين وقوات الاحتلال ومن مجازر ارتقى فيها 95 شهيدًا حتى الآن منذ 7 أكتوبر، دليل على ذلك.
موقف السلطة الحيادي يفقدها ما تبقى لها من شرعية
إنّ استمرار الموقف الحيادي سيفقد القيادة ما تبقى لها من شرعية وشعبية ومصداقية، وسيدفع مزيدًا من العناصر المدنية والأمنية في السلطة وحركة فتح، خصوصًا إذا تواصلت حرب الإبادة وتعمقت الكارثة الإنسانية وتوسعت، إلى الانفضاض عنها والالتحاق بالشعب، وهذا يمكن أن يؤدي إلى إضعاف السلطة وخضوعها أكثر للاحتلال، وربما انهيارها، أو انقسامها واقتتالها بين قسمين عميل ووطني. فالمطلوب أن يتصاعد الموقف المطلوب من القيادة والسلطة بممارسة الحق في الدفاع عن النفس، وليس الاكتفاء بالتكرار بالتمسك بالحق وإدانة حرب الإبادة والتهجير لفظيًا.
إدارة مؤقتة أم دائمة لإدارة غزة؟
هناك أفكار مطروحة مثل عمل نظام أمني خاص أو إدارة مؤقتة لغزة (ارجع إلى مقال كل من: دينس روس وديفيد ماكوفسكي وروبرت ساتلوف، المعنون بـ “أهداف الحرب الإسرائيلية ومبادئ الإدارة في غزة في مرحلة ما بعد “حماس”، والمنشور على الموقع الإلكتروني لمعهد واشنطن، بتاريخ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2023). ونحن نعرف كيف يتحول المؤقت إلى دائم، فالمرحلة الانتقالية في أوسلو مفترض أنها انتهت في أيار/ مايو 1999، غير أنها ما تزال قائمة، والحل الانتقالي يراد له أن يكون أبديًا.
وهناك سعي إلى إشراك الدول العربية في رسم مستقبل القطاع التي أقامت أو على وشك إقامة تطبيع مع إسرائيل، وكذلك الأمم المتحدة، وتُطرح في هذا السياق أفكار عن قوات عربية غير نظامية وحدها أو بمشاركة قوات دولية يقودها شخص مغربي؛ أي ليس من الدول المحيطة.
وهذا كله أضغاث أحلام؛ لأن الأمم المتحدة ليست حكرًا على الدول الغربية، بل هناك أغلبية في مؤسساتها، بما في ذلك مجلس الأمن، لن تتساوق مع الأهداف والمخططات المعادية الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، بل تنتصر للحق الفلسطيني وتدافع عنه، مع أنها عاجزة عن إيقاف الحرب وإيصال المساعدات الإنسانية.
الحرب البرية وفتح الجبهة الشمالية
على الرغم من القرار الإسرائيلي بخوض الحرب البرية بسبب أنه من دونها لا يمكن إحراز نصر حاسم على “حماس”، ومن دون هذا النصر ستفقد إسرائيل مكانتها الإستراتيجية وتصبح “ملطشة” لكل من هب ودب من أعدائها، فإن الحرب لم تبدأ بعد.
ويعود تأخير الحرب البرية إلى الأسباب الآتية:
أولًا: خشية قوات الاحتلال من وقوع خسائر فادحة في صفوفها بسبب مفاجآت تعدها المقاومة، مثل المفاجأة التي زلزلتها في طوفان الأقصى، لذلك فهي بحاجة إلى وقت للحصول على معلومات استخبارية، وإلى قدوم قوات أميركية إلى المنطقة، مع تزايد احتمال فتح جبهات أخرى.
ثانيًا: مواصلة سياسة الأرض المحروقة التي وصلت إلى حد مواصلة وتصعيد المجازر الجماعية، وجعل مناطق غير قابلة للحياة لفترة طويلة، حتى تضمن قوات الاحتلال تقليل الخسائر لديها، في حين أن الدمار والبنايات المهدمة كما يقول خبراء عسكريون قد يحرم المقاومة من التواجد البشري الكثيف، ولكنه يوفر متاريس من شأنها أن تساعد المقاومين وتمكنهم من إلحاق خسائر كبيرة بالقوات الإسرائيلية، فكل مقاوم في حرب المدن مدافع مختبئ في مخبأ حصين تحت الأرض أو فوقها، يعرف جيدًا أرض المعركة، ومستعد تمامًا لها، وهو بحاجة وفق الخبراء إلى 26 جنديًا مهاجمًا لكي تحدث المساواة بين الفريقين.
ثالثًا: الخشية من احتمال اتساع الحرب المحدودة على الجبهة الشمالية بعد أن اتضح أن حزب الله لن يسمح بهزيمة المقاومة، لذا يلجأ إلى التصعيد المتدرج في حربه، بما يتناسب مع تقدم الحرب، وفي اللحظة التي يشعر فيها بأن المقاومة ستُكسر فلن يتردد في توسيع الحرب، ولو أدى ذلك إلى حرب إقليمية بدخول جبهات أخرى، سورية وعراقية ويمنية، وأخيرًا إيرانية، مع تقديري أن توسيع الحرب المحدودة في الشمال سيساهم في وقف الحرب على الفلسطينيين أكثر ما يفتح طريق الحرب الإقليمية، التي لا أحد يريدها؛ لأنها مدمرة ونتائجها غير مضمونة.
رابعًا: مفاضلة الحكومة الإسرائيلية ما بين المبادرة بتوجيه ضربة استباقية لحزب الله (كونه الهدف الثاني للحرب الإسرائيلية)؛ إذ أشارت مصادر إسرائيلية وأميركية إلى أن وزير الحرب الإسرائيلي دعا إلى الضربة الاستباقية، لكن الإدارة الأميركية عارضت ذلك، وبين البدء في الحرب البرية في القطاع، والاستعداد في الوقت نفسه لتوسيع الحرب على الجبهة الشمالية.
خامسًا: ضغط الولايات المتحدة والدول التي لها أسرى في أيدي المقاومة الفلسطينية لتأخير الحرب البرية، على أمل أن تتمكن من الإفراج عنهم، خصوصًا أن المقاومة أجادت في استخدام هذه الورقة، وظهرت إنسانية ومسؤولة وليست داعشية، كما جاء على لسان أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام، حين أعلن أن الأسرى المدنيين ومن الجنسيات الأخرى ضيوف، وسيتم الإفراج عنهم عندما تتوفر الظروف المناسبة، وهنا التفاوض جارٍ على وقف الحرب لساعات عدة، وربما لأيام لكي تتمكن المقاومة من الإفراج عنهم.
وخير ما نختم به المقال، ما جاء في مقال توماس فريدمان، الصحافي الأميركي الصهيوني المقرب من إدارة بايدن؛ حيث قال: “إن الاستيلاء على غزة من دون ربطها بنهج جديد تمامًا فيما يتعلق بالمستوطنات والضفة وحل الدولتين سيكون بمنزلة كارثة لإسرائيل وكارثة لأميركا”، وأضاف: “قد يؤدي إلى إشعال حريق عالمي وتفجير هيكل التحالف المؤيد لواشنطن بالكامل، الذي بنته الولايات المتحدة في المنطقة منذ أن هندسه هنري كيسنجر منذ نهاية حرب أكتوبر 1973″، و”يمكن دون ذلك أن يلحق الضرر بإسرائيل بشكل لا يمكن إصلاحه … وتهدد اليهود في كل مكان وتزعزع استقرار العالم كله”.
ومن الواضح أنهم لم ولن يستجيبوا لنصيحة فريدمان، وبالتالي إذا لم يرتدعوا ويوقفوا الحرب سيحصل ما حذر منه، وأكثر من ذلك ستواجه إسرائيل هزيمة؛ لأن الشعب الفلسطيني لا يملك سوى خيار الصمود والانتصار، مع العلم أن الحرب لها امتدادات عربية وإقليمية ودولية، وتندرج بتخطيط من أطرافها أو من دون تخطيط ضمن الصراع العالمي على رسم خريطة المنطقة والعالم، وعلى قيادة النظام العالمي القادم، وإن غدًا لناظره قريب.