حكايا في زمن الحرب.. شروق العيلة: من ركام الحرب والفقد إلى منصة التكريم
"ليس كلّ الفراق يُنسى، بعضه يبقى، مثل جرحٍ مفتوحٍ؛ نحن لسنا هنا، نحن عالقون في تلك اللحظة، نعيش في انتظارٍ لا ينتهي، على أملِ الرجوع".
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
حكايا في زمن الحرب إعداد: شيماء مقداد
لم تتوقع “شروق” يومًا أن يتغير كل شيء في حياتها، وأن تحمل في قلبها جرحًا عميقًا من أثر الحرب، حين فقدت رفيق دربها وصديقها المقرب الشهيد الصحفي “رشدي السراج” ، و في لحظة تغير كل شيء.
شروق العيلة (30 عاماً)، مخرجة أفلام، وصحفية حاصلة على درجة الماجستير، أمٌ لطفلة صغيرة “دانيا”، تبلغ اليوم من العمر سنتين، ومن عمر الحرب سنة كاملة قضتها في يُتم.
تقول: “من جَرب الفقد لا يقوى على التخطي، نحن عالقون في السابع من أكتوبر، قبل أن تخرج الصواريخ، نسير على قشور الأيام، وننتظر أن ترجع قلوبنا إلى ما كانت عليه.”
تصف شروق علاقتها برشدي بكلمة واحدة “أفضل صديق best friend”، فلم يكن لقب “زوج” كافيًا ليعبّر عن عمق ارتباطهما، فهما كانا متأخرين في الزواج بمقياس المجتمع، لكنه كان اختيارًا مُدروسًا وقرارًا صعبًا.
تزوجا بعد سنوات من التفكير والاختيار، ودام زواجهما عامين فقط. تقول : “رشدي لم يكن زوجي فحسب، بل كان مرآتي، اختياراتنا كانت دائمًا صعبة، والزواج لم يكن هدفنا الأساسي، ولكن انتظاره كان يستحق.”
قبل أن تبدأ الحرب بأيام، كان رشدي وشروق في مكة المكرمة، يحضران لأداء العمرة. كانوا قد خططوا للعودة إلى حياتهم اليومية وعملهم بعد ذلك، ولكن حينما بدأت الحرب، ألغيا كلّ خططهما وعادا فورًا إلى غزة، ليجدا أنفسهما محاصرين وسط القصف العنيف.
نزحت شروق ورشدي إلى منزل والده، بعد أن أصبح بيتهم الواقع في حي “تل الهوى” جنوب مدينة غزة – أحد أكثر المناطق المستهدفة- مكانًا خطيرًا.
و في صباح يوم قصفٍ ثقيل، كانوا يتناولون الفطور عندما هزّ صاروخ قريب المكان، تحرّكت طاولة الطعام من قوة القصف، فنزلوا بسرعة إلى الطابق السفلي، حيث اجتمعوا جميعًا في ذعر وقلق.
“كنت ممسكة رشدي بيد، ودانيا ابنتي باليد الأخرى، وقف رشدي أمامي ينظر إلي بلا سبب، وخلال ثانيتين فقط، انقلب الجو رمادياً وتحوّل المكان لكابوسٍ من الدخان والحطام”.
في تلك اللحظة المروعة، لم تعد شروق تشعر بشيء، كانت تظن أنها تفقد الوعي ببطء بسبب التوتر الشديد، لكنّ رائحة البارود أيقظتها، كل الألوان كانت رمادية، فصارت تتحسس بيديها في محاولة للبحث عن رشدي وابنتها.
وجدت رشدي مُلقى بجانبها، مصابًا إصابة بليغة في رأسه. ومع كل ألمها، كانت صلبة في تلك اللحظة، اتصلت بأخيها الطبيب لتعرف منه ما يمكن أن تفعله لإنقاذ رشدي. ومع الأسف، كان جواب أخيها محبطًا وقاسيًا: “هذه حالة ميؤوس منها، لا يوجد شيء يمكن فعله الآن.”
لم تستسلم شروق لليأس، حملت مع العائلة رشدي على بطانية، قررت نقله للمستشفى رغم القصف المستمر، يركضون بسرعة وكل شيء يتطاير من حولهم، وفي مستشفى القدس، لفظ رشدي أنفاسه الأخيرة، بعد دقائق من وصولهم، واختتم حياته بالشهادة.
“رشدي كان دائمًا متجددًا ومفعمًا بالأحلام، كان يحلم بكسر الحصار وتجاوز أسوار غزة ليصل للعالمية، ليكون صوت غزة الذي لا يُقهر.”
اليوم، تجد شروق نفسها محاطة بذكرياتٍ لا تُنسى وأحلامٍ لم تُستكمل، لكنها لم تتراجع. أعادت تشغيل شركتهما الإعلامية “عين ميديا” بعد شهرٍ ونصف من رحيله، محاولةً تحقيق ما تبقى من أحلام رشدي، وأحلام صديقه الشهيد ” ياسر مرتجى” .
وفي محاولة لأن تقف قويةً ثابتة، تتابع شروق تحقيق أحلام رشدي وصديقه ياسر، تحت وطأة الإبادة المستمرة، حتى وإن لم تستطع استيعاب غيابه إلى الآن، فهي ترى أن الألم والفقد لا يُغلب بسهولة.
“جميع المشاعر مؤجلة إلى حين العودة، حتى الانهيار مؤجل، لا وقت للحزن، هذا الوقت متاح فقط لمحاولات النجاة”.
رغم ما حدث، لم تتوقف شروق عن نضالها، لكنها اليوم تقف على أرضٍ جديدة؛ تحاول أن تقوم بعملها وعمل زوجها في الوقت ذاته، واليوم تحصد “الجائزة الدولية لحرية الصحافة لعام 2024″ ، تكريمًا لشجاعتها في نقل أحداث الحرب، وتحدّيها لكل الصعاب التي مرت بها لتبقى شاهدة على ما يحدث لأهلها وبلادها.
تقول: “أنا حزينة جدا على استلامي لجائزة في هذا الوقت الصعب والقاسي، حزينة لأن استلم جائزة تقف خلفها قصص دامية لكثير من الناس “
تقدم هذه الجائزة سنويًا للصحافيين الذين يعملون في ظروف استثنائية، وهو ما كان عمل شروق مثالًا حيًا له. وبهذا، تُكرم شروق على ثباتها، وإصرارها على مواصلة رسالتها، رغم نزوحها المتكرر والمخاطر التي تحيط بها، ورغم أنها زوجة الشهيد، وأم لطفلة يتيمة، وصحافية تتحدى كل ظروف الحرب، وتصارع كل يوم من أجل البقاء.
كل ما تتمناه شروق اليوم أن تنتهي الحرب، وأن ينتهي موسم الموت والقتل والدمار، أن يكون لديها الوقت الكافي لاستيعاب كل ما يحدث، تريد أن تنسى مشاهد الموت والتهجير والنزوح والذل، وأول ما ستفعله بعد انتهاء الحرب، الذهاب لزيارة قبر صديقها المقرب وزوجها الشهيد “رشدي السراج”.