مقالات الخامسة

ربع قرن من الفشل والانكسار: الأمة التي خذلت رسالتها!!

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

بقلم د. أحمد يوسف
إنَّ المفترق الزمني للربع الأول من القرن الحادي والعشرين، تتجلى فيها أمام الأمة الإسلامية مشاهد الانكشاف لا الإنجاز، والانكسار لا الانتصار. فقد كانت السنوات الخمس والعشرون الماضية حُبلى بالأحداث الكبرى، لكنها كشفت عن عجز عميق في الإرادة والفكرة والمشروع. فمن تسارع موجات التطبيع، إلى انهيار مركزية القضية الفلسطينية، ومن تراجع الإسلام السياسي إلى انفراط العقد القومي بين مكونات الأمة، كلُّ ذلك يحدث تحت وابلٍ من القصف وحرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة، وصمت يوشك أن يُصبح نمطاً سلوكياً منحطاً وهويةً سياسية. هذه السطور في مجملها هي إطلالة للمشهد من علٍ، وتأمل في السؤال الجوهري المطروح: هل الأمة بصدد ولادة جديدة… أم نهاية مؤقتة لدورها الحضاري؟!
في مشهدية الربع الأول للألفية الثالثة، مرَّت الأمة الإسلامية بمرحلة غنية بالأحداث والتحولات، لكنها، في معظمها لم تكن لصالح قضاياها المركزية، ولا في اتجاه استعادة دورها الحضاري. لقد كشفت السنوات الخمس والعشرون الماضية عن فشل مركب؛ في الرؤية، وفي الأداء، وفي بناء مشروع جامع.. إذ إنَّ ما شهدناه لم يكن مجرد سلسلة من الهزائم السياسية أو العسكرية، بل تآكلًا في البُنى العميقة للوعي الجمعي، وانهيارًا في قدرة النخب على الفعل، وتمزقًا في التكوين الاستراتيجي للأمة.
إنَّ هناك جملة من الخسارات كانت بمثابة علامات فارقة لهذا الربع من القرن، الذي أوشك أن يرحل ويطوى أشرعة سفنه، وهي كالتالي:
١. التطبيع الخليجي: سقوط السور الأخير
لم يكن التغير الأخطر في هذا الربع الزمني ناتجًا عن عدوان مباشر فحسب، بل جاء من داخل البيت العربي ذاته. إذ اندفعت عدة عواصم خليجية -تحت عناوين براقة كالسلام والتعاون- لتوقيع اتفاقات تطبيع شامل مع الكيان الصهيوني، متجاوزة كلّ الثوابت القومية والإسلامية، وعلى حساب القضية الفلسطينية.
هذه الاتفاقات لم تأتِ في سياق مفاوضات عادلة أو حلٍّ شامل، بل كمِنح مجانية لإسرائيل، فتحت لها أبواب النفوذ الأمني والسياسي في عمق الخليج. وفي الوقت الذي كانت فيه غزة تُقصف وتُحاصر، كانت وفود العواصم المطبعة تُصافح قادة الاحتلال وتُمهّد لشراكات استراتيجية مقلقة!!

٢. السلام الإبراهيمي: غسل الدم بالرمز الديني
على هامش التطبيع، طُرحت سردية جديدة عنوانها “السلام الإبراهيمي”، تسعى إلى إنتاج وعي ثقافي وديني ممسوخ، يُحوِّل العدو المحتل إلى “شقيق في النسب الإبراهيمي”، ويمهِّد لتجاوز الصراع عبر مشروعات “وحدة الأديان” و”إبراهيمية المنطقة”.
هذا المشروع، بما فيه من خلط للمفاهيم، لا يستهدف فقط تطبيع العلاقات، بل تفكيك الوعي الإسلامي من الداخل، وتفريغ الإسلام من بعده التحرري والنهضوي.

٣. السابع من أكتوبر: الطوفان الذي بعثر الأوراق
فجّرت معركة “طوفان الأقصى” التي نفذتها المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣ لحظة كبرى في تاريخ الصراع، كسرت فيها جدران الاحتلال، وأحرجت المنظومة الأمنية الإسرائيلية، ومنحت الشعوب العربية والإسلامية بضع ساعات من النشوة والفخر، واستُعيدت فيها لحظة مركزية فلسطين في وجدان الأمة.
لكن الحدث ما لبث أن انقلب إلى كارثة إنسانية بفعل الرد الإسرائيلي الوحشي، والدعم الأمريكي الكامل، والصمت الدولي، إذ دخلت غزة في أتون حرب إبادة مفتوحة، ولا تزال حتى اليوم تدفع ثمن لحظة البطولة.

٤. صمت عربي وشعبي غير مسبوق
ربما كان الصمت الرسمي مفهومًا أو متفهمًا ضمن سياقات الهيمنة الدولية والارتباط الأمني بالغرب، لكنَّ الصدمة الحقيقية جاءت من الشارع، إذ لم تشهد معظم العواصم العربية موجات غضب شعبية واسعة أو مستدامة، كما جرت العادة في الانتفاضات السابقة.
لقد بدا وكأن الشارع قد استُنزف أو رُوّض، وغاب الصوت الشعبي المزلزل، الذي كان ذات يومٍ أحد أبرز أدوات الضغط والتغيير في قضايا الأمة.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

٥. الدور التركي… بين الخطاب والحسابات
كانت التوقعات عالية أن تتخذ تركيا أردوغان، برمزيتها الإسلامية وقيادتها السياسية، مواقف أكثر حدة ضد ما يجري في غزة.. لكنها، رغم بيانات الإدانة، حافظت على شعرة معاوية مع إسرائيل، وبقيت التزاماتها الاقتصادية والدبلوماسية قائمة.
إنَّ خيبة أمل الشارع الإسلامي في تركيا، لم تكن فقط في التصريحات، بل في غياب الفعل الذي يعكس وزنها الإقليمي، وقدرتها على فرض معادلات جديدة، أو كسر الطوق المفروض على الفلسطينيين.

٦. فشل الإسلام السياسي في استنهاض الأمة
أثبتت الأحداث المتلاحقة، خاصة بعد الربيع العربي، أن مشروع “الإسلام السياسي” بشكله الحالي قد فقد القدرة على التأثير والتعبئة. فالحركات الإسلامية الكبرى، بعد أن أخفقت في إدارة الحكم، أو تراجعت عن خطابها الأصلي، لم تعد تمتلك مشروعًا جامعًا ينهض بالأمة أو يوحد قواها.
للأسف، لقد تقلص الحضور الإسلامي السياسي وانكمش إلى مربعات ضيقة: دعوية، أو حزبية، أو علاقات تكتيكية مع الأنظمة، وتراجعت معه القدرة على التأثير الشعبي، وعلى احتلال موقع مركزي في وعي الشارع العربي والإسلامي.

٧. الأمة المتشظية: العرب والفرس والترك في خنادق متقابلة
في الحقيقة، إنَّ ما يُعمّق الأزمة أكثر هو التمزق القومي داخل الأمة الإسلامية. فلا مشروع جامع يربط العرب بالفرس، ولا رؤية موحدة تجمع الترك بالعرب، بل كلّ طرف يتحرك ضمن مصالحه، وأحيانًا في صدامات إقليمية مباشرة.
فالاختلاف في المرجعيات، والتناقض في الطموحات، وانعدام الثقة، كلها جعلت الأمة الإسلامية مجرد فسيفساء متجاورة لا متفاعلة!! وهذا ما سهّل على القوى الكبرى اختراق المنطقة، وتمكين إسرائيل في قلبها.

٨. الوهم الغيبي: نبوءة زوال إسرائيل كمخدر جماهيري
إنَّ واحدة من المظاهر المؤسفة التي شهدتها هذه المرحلة كانت الترويج لنبوءة زوال إسرائيل عام 2022، على يد بعض الدعاة والناشطين الإسلاميين، والتي تحولت إلى خطاب تعبوي يبتعد عن الواقع..
فبدلًا من تعبئة الجماهير للوعي بالمخاطر، والتخطيط للمواجهة، تمَّ تعميم خطاب الانتظار والخلاص الغيبي، وهو ما ساهم ـولو جزئيًاـ في شيوع ثقافة الاسترخاء والتواكل على معجزات السماء.

ختاما: هل ما زال في الأمة بقية أمل؟
إنَّ ما عاشته الأمة في ربع قرن لم يكن هزيمة في معركة، بل سلسلة من الانكشافات التاريخية الكبرى على مستوى المشروع، والقيادة، كذلك في الوعي، وفي وحدة المصير.
وعليه؛ إذا لم تتوجه النخب الفكرية والسياسية والدينية إلى مراجعة جذرية لكلِّ المسلمات القديمة، فإنَّ القادم قد يكون أكثر قتامة.
غير أن التاريخ لا يُغلق أبوابه، والأمم التي تنكسر، يمكن أن تُبعث من جديد، متى امتلكت الشجاعة للاعتراف، والجرأة على التصحيح.
فهل نملك اليوم -يا أمة الخيرية- شجاعةَ الحقيقة؟
أم سنواصل الغرق في الوهم حتى إشعار آخر؟
سؤالٌ برسم حالة العجز وأمل القدرة على الإجابة!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى