مقالات الخامسة

ما بعد الحرب: بدلًا من الانشغال بتعريف النصر والهزيمة

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

عوض عبد الفتاح

من الطبيعي أن تفيض المنصات الإعلامية والفضاءات الفكرية بنقاشات حادة وجدالات لا تنتهي حول نتائج العدوان الإسرائيلي على إيران، ومحاولات تعريف النصر والهزيمة وتقييم تداعياته على إيران وإسرائيل، والعرب والفلسطينيين. إلا أن هذا الجدل، رغم أهميته، قد يستنزف الكثير من الوقت والطاقة النفسية دون أن يغيّر من الحقيقة المركزية، وهي أننا سنجد أنفسنا في نهاية المطاف مجددًا أمام القضية الأصل – فلسطين وغزة التي تتعرض للإبادة، والضفة الغربية التي يتواصل فيها الاستيطان والقتل في إطار مخطط تهويد فلسطين. والسؤال الجوهري والكبير: كيف وصلنا إلى هذه النتائج؟ وماذا بعد؟

ليس الحديث هنا فقط عن الواقع الفلسطيني، بل عن سؤال قديم لا يزال يطرق الأذهان: لماذا تقدم الغرب وتخلّف العرب والمسلمون؟ ما السر وراء هذا الضعف المزمن الذي يُغذّي المشروع الصهيوني الاستعماري في منطقتنا، وفلسطينيًا كيف أن هذه المقتلة الإبادية مرّت وتَمرّ من دون تحقيق الوحدة الفلسطينية؟

لا خلاف اليوم حول حال الأنظمة العربية وسلوكها منذ السابع من أكتوبر وحرب الإبادة. فقد بلغ الانحطاط والتخاذل درجة غير مسبوقة في التاريخ العربي، بل والبشري، حيث لم يقتصر الأمر على العجز عن دعم قضية قومية وإنسانية عادلة، بل وصل إلى حد التواطؤ مع المستعمر المعتدي، ومشاركة فعلية في تمويل آلة العدوان على غزة وحتى إيران. هذا التوصيف، رغم قسوته، لا يعني اليأس أو الانسحاب من الساحة، بل يستوجب تطوير خطة عمل بديلة، تُدرج التحرر الفلسطيني ضمن مشروع تحرر عربي أشمل، ويشمل أيضًا ترتيب العلاقات الإقليمية مع دول كإيران وتركيا حضاريًا وثقافيًا وتاريخيًا في المنطقة العربية.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

أما إسرائيل في نسختها الوحشية الجديدة، فقد كشفت عن وجهها الأشد توحشًا، متفوقة في همجيتها على أنظمة الإبادة التاريخية. لكن هذه الجرائم أدت إلى تحوّل نسبي وهام في الرأي العام العالمي، لا سيما الشعبي، وأثارت مواقف انتقادية حتى في بعض الأوساط الرسمية، رغم أن هذا التحوّل لم يصل بعد إلى مستوى الضغط الفعّال على الحكومات الداعمة. وستكون قدرة الفلسطينيين على استثمار هذا التغير لصالح قضيتهم شرطًا أساسيًا في تحديد مسارات المستقبل.

مقالات ذات صلة

صحيح أن إسرائيل ألحقت ضربات قاسية ومؤلمة بالفلسطينيين والعرب والإيرانيين، وأظهرت استعدادها لخوض حروب طويلة، على خلاف عقيدتها الأمنية السابقة، إلا أن هذه الحرب كشفت عن نقاط ضعف في بنيتها، أبرزها الفشل في تحقيق ردع مطلق، خاصة في مواجهة إيران، وكذلك الانقسامات الثقافية والسياسية والإثنية داخل المجتمع الإسرائيلي، والأهم، وهو ما سيشكل تهديدًا دائمًا على وجودها، بأنها دولة ترفض أي تسوية، وتصر على الإبادة والسيطرة المطلقة، ما يُغذّي حتمًا تجدّد حركة المناهضة والمقاومة في فلسطين والمنطقة.

النقاش حول عملية 7 أكتوبر – وتحديدًا قرار حماس بالقيام بها – لا يزال قائمًا، وقد اشتد بعد حجم الدمار في غزة. فرغم الدعم الشعبي الواسع الذي حظيت به العملية في بدايتها، تراجع هذا التأييد لاحقًا، خصوصًا في ظل غياب إستراتيجية واضحة تُقدّم بدائل فعلية. ومع انتهاء جولة الحرب على إيران، ستعود هذه النقاشات لتطفو مجددًا، وسط واقع فلسطيني مأزوم، يفتقد لوحدة سياسية ولإجماع فكري، كما يفتقد لمؤسسة بحثية موثوقة تُرشّد القرار الوطني وتمنح النقاش العمق والاتجاه، والمؤسسات الفلسطينية المستقلة الجدية القائمة لا تُسمع من قبل صنّاع القرار.

المطلوب اليوم ليس إسكات النقاش، بل توجيهه. المطلوب عقلنة الحوار، والخروج من دوامة السجال العقيم، والشعارات الجوفاء. وبعد أن تراجعت حدة العدوان مؤقتًا في الجبهات المجاورة – لبنان، سورية، العراق، وإيران – تزداد الحاجة لتقييم أكثر واقعية للمرحلة المقبلة، التي ستكون حبلى بتحديات متجددة، أبرزها محاولات قوى الهيمنة استغلال ما تعتبره إنهاكًا للفلسطينيين وللبيئة العربية والإيرانية.

رغم ذلك، لا تزال هناك قوى وطنية وقومية وتقدمية في العالم العربي وفلسطين، تحمل رؤية نقدية وواعية، واكبت إشعال ثورات الربيع العربي، وأغنت الفكر التحرري. لكن إخفاق هذه الثورات، نتيجة انحرافها أو اختطافها، همّش هذه التيارات، وفتح المجال أمام قوى الثورة المضادة، ومما أعاق الارتقاء والنهوض أن مثقفين اصطفوا مع “محور المقاومة” بلا مساءلة، متجاهلين الاستبداد والفساد وانعدام الديمقراطية داخل هذا المحور، خصوصًا في سورية ولبنان والعراق. كل ذلك شكّل عبئًا ثقيلًا وعائقًا جوهريًا أمام وحدة الشعوب العربية وقواها التقدمية. وليس مصير نظام بشار الأسد البائد، وقدوم سلطة جديدة يُجري ترويضها أميركيًا، إلا مثالًا على ذلك.

وهنا مكمن الخلل الذي لا يمكن علاجه من دون إدراك أن المقاومة الحقيقية يجب أن تشمل مقاومة الداخل، أي مقاومة الاستبداد والفساد، والمظالم الاجتماعية والاقتصادية.

المرحلة المقبلة، التي تحمل إرثًا ثقيلًا من الإخفاقات والمآسي، ولكن أيضًا إرثًا من الصمود الأسطوري، تطرح فرصة جدية، خصوصًا على الساحة الفلسطينية، لإجراء مراجعات عميقة وشاملة، تُفضي إلى بناء مشروع وطني جديد، يدمج بين النضال الشعبي المدني في الداخل، والتحالفات العالمية في الشتات، ويعيد تفعيل أدوات نضالية ثبتت نجاعتها في مراحل سابقة، ومن أهمها الانتفاضة الأولى. يُنتظر أن تشمل المراجعات الجرأة في إعادة النظر في أدوات النضال. وربما، وقد يكون مؤكدًا، أن الحركة الوطنية الفلسطينية ستعود إلى موروث المقاومة الشعبية، ومقاربته بجدية عالية.

إن غالبية الناشطين في إطار المبادرات الوطنية لإصلاح الحالة الفلسطينية، يدركون جسامة اللحظة التاريخية الراهنة، وما تستوجبه من تفكير ومقاربات جريئة وسياسات عملية ملائمة وفعالة.

لكن التحدي الحقيقي يظل في تحويل هذه المراجعات إلى أفعال ملموسة، توازي حجم الكارثة، وترتقي إلى مستوى التضحيات، والصمود الأسطوري الذي أبداه الشعب الفلسطيني، وشعوب المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى