من غزة إلى لاهاي: أن تأتي متأخرًا من أن لا تاتي أبدًا
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
الكاتب: خالد جاسر سليم
قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت يمثل انتصارًا مهمًا للعدالة الدولية، ليس فقط على الصعيد الرمزي، بل على الصعيد القانوني والسياسي أيضًا. القرار، الذي صدر رغم الضغوط الكبيرة من الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، يُظهر أن القانون الدولي قادر على مواجهة العقبات السياسية لتحقيق المحاسبة.
إسرائيل رفضت القرار بشدة، مستندة إلى أنه ليس للمحكمة ولاية على إسرائيل لكونها لم توقع على ميثاق روما. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو القرار بأنه “مخزٍ ومعادٍ للسامية”، بينما اعتبر وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير المحكمة الدولية “معادية لإسرائيل منذ إنشائها”، واصفًا القرار بأنه “عار قانوني غير مسبوق”. بدوره، رأى وزير الدفاع الأسبق بيني غانتس أن القرار يمثل “عمى أخلاقيًا” لن يُنسى. هذه التصريحات تعكس الغضب الإسرائيلي، ومحاولة تصوير القرار كعمل مسيس يستهدف إسرائيل في سياق حملة دولية.
في مواجهة هذا التطور، يُتوقع أن تلجأ إسرائيل إلى استراتيجية “الهروب إلى الأمام”، عبر تكثيف الضغوط على السلطة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز إجراءات التهويد والاستيطان في الضفة الغربية، مما يتطلب وحدة الموقف الفلسطيني وثباته. وفي الوقت ذاته، ستسعى إسرائيل إلى حشد دعم الحليف الأمريكي لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية أو تقويض صلاحياتها، بهدف الحد من نطاق القرار ومنع توسيعه ليشمل مسؤولين آخرين. ورغم أن هذه التحركات قد تُؤخر تداعيات القرار، إلا أنها لن تُزيل أثره المتراكم في المدى المتوسط والبعيد. فالقرار يتجاوز استهداف شخصين إلى توجيه رسالة واضحة بضرورة محاسبة كيان بأكمله اعتاد التصرف كدولة فوق القانون الدولي.
من الناحية القانونية، يُعد هذا القرار تطورًا غير مسبوق في المنظومة القانونية الدولية، حيث إنها المرة الأولى التي تُصدر فيها مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين منذ تأسيس الأمم المتحدة. هذا يفتح الباب أمام الادعاء العام لمواصلة تقديم مذكرات اعتقال بحق مسؤولين آخرين تورطوا في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مما يشكل سابقة يمكن أن تؤثر على مستقبل القادة الإسرائيليين في الساحة الدولية.
إحدى النتائج الفورية للقرار تتمثل في تقييد قدرة المسؤولين الإسرائيليين على التحرك في الساحات الدبلوماسية، خصوصًا في الاتحاد الأوروبي، الذي يضم دولًا موقعة على نظام روما الأساسي. قد يجد المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم محرومين من زيارة العديد من الدول خشية الاعتقال، مما يضعف من قدرتهم على الدفاع عن السياسات الإسرائيلية دوليًا.
علاوة على ذلك، يُشكل القرار تهديدًا للدول التي تقدم دعمًا عسكريًا لإسرائيل، مثل ألمانيا. استمرار هذا الدعم لدولة متهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية قد يُعرض هذه الدول لانتقادات وضغوط دولية، وربما مساءلة قانونية من منظمات حقوقية. هذا الوضع قد يدفع بعض الدول إلى إعادة تقييم سياساتها للحفاظ على صورتها الدولية وتجنب الاتهامات بالتواطؤ في الجرائم.
ورغم معارضة إسرائيل والولايات المتحدة، يُعد القرار خطوة جريئة لتعزيز مبدأ المحاسبة الدولية، ويُبرز استقلالية المحكمة الجنائية الدولية وقدرتها على مواجهة الضغوط السياسية. كما أنه قد يشجع ضحايا الجرائم الدولية الأخرى على السعي لتحقيق العدالة، مما يعزز الثقة في النظام القانوني الدولي.
القرار يعزز مكانة المحكمة الجنائية الدولية كجهة قضائية مستقلة، ويُظهر أن العدالة يمكن أن تتحقق حتى في ظل تحديات سياسية ودبلوماسية معقدة. دعم دول مثل بلجيكا وهولندا وإيرلندا وسلوفينيا يعزز مصداقية القرار ويدفع نحو تطبيقه. كما أكدت تصريحات جوزيب بوريل، مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بأن “هذا ليس قرارًا سياسيًا، بل قرار قضائي يجب أن يُحترم ويُنفذ”، على أهمية احترام المجتمع الدولي للقانون الدولي.
في النهاية، يمثل القرار خطرًا استراتيجيًا على إسرائيل، ليس فقط لأنه يُقيد حركة مسؤوليها، بل لأنه يضعها أمام واقع جديد يتجسد في تراجع الحصانة التقليدية التي تمتعت بها لعقود. ورغم أن تنفيذه قد يكون معقدًا، إلا أن قيمته تكمن في فتح الباب أمام محاسبة منتهكي القانون الدولي، وإعادة توجيه النقاش الدولي نحو حقوق الإنسان ومعاناة الضحايا الفلسطينيين، خصوصًا في غزة. إنه خطوة نحو نظام دولي متعدد الأقطاب، قد يكون أكثر عدالة، وإن كانت الطريق لتحقيقه طويلة وشاقة.