نتنياهو وعلم الإحصاء!
شبكة الخامسة للأنباء - غزة

الكاتب: عبد المجيد سويلم
قبل أن أُقرّر التوقُّف عن العدّ وراء رئيس حكومة الإبادة بنيامين نتنياهو حول المعركة الأخيرة التي ستحسم الحرب الهمجية مرّة وإلى الأبد، أو الخطوة الأخيرة قبل حسمها، أو على بُعد أيّام من الانتصار الساحق الماحق، أو المرحلة النهائية للقضاء الكامل على قوات «حماس»، أو الأمتار الأخيرة، والكتيبة الأخيرة، والأنفاق الأخيرة، والقيادات المتبقّية الأخيرة.. قبل كلّ ذلك وبعده، أظنّ أن نتنياهو يحتاج إلى من يُنعِش له الذاكرة، ليس هو شخصياً فقط، وإنّما كل من يحيطون به ويتحلّقون حوله من قيادات سياسية، وعسكرية وأمنية، إضافةً إلى عشرات من صحافيي القنوات الإسرائيلية، ومن كتّاب الأعمدة الذين كانوا يردّدون على مسامع الجمهور الإسرائيلي هذه الجُمَل والفقرات حرفيّاً، وفي كلّ مرّة، وبفارق عدّة أيام فقط، وكانت مدهشة حقاً شدّة النسيان لديهم عندما قرّرت التوقّف عن العدّ كانت المعارك الأخيرة، والأمتار الأخيرة، والمرحلة الأخيرة ما قبل الحسم النهائي، والنصر المطلق قد بلغت 16 إعلاناً.
أتذكّر الآن كيف أنّ البعض منّا كاد يصدّق نتنياهو باقتراب ساعة الحسم، وتحقيق الانتصار الحاسم وانتهاء الحرب على هذه الشاكلة.
ماكينات إعلامية كبيرة شاركت في الترويج لهذا الوهم، وتمكّنت من التعمية والتمويه على قطاعات إسرائيلية واسعة في الأشهر الأولى من الحرب الدموية على القطاع، وتسلّل هذا الوهم إلى قطاعات لا يُستهان بها في الشارع العربي، ناهيكم عن ترويج هذا الوهم، وأوهام أخرى في الإعلام العربي، وفي الإعلام «الغربي»، أيضاً.
نتذكّر الآن أُكذوبة مستشفى الشفاء، ثم باقي المستشفيات، ونتذكّر كتيبة بيت حانون، ثم كتائب جباليا، ثم كتائب الشجاعية، ثم خان يونس، شرقها وجنوبها، ثم رفح كآخر ما تبقّى، ثم العودة إلى خان يونس، بل والعودة إلى شمال القطاع.. وهكذا على مدار أكثر من 22 شهراً من معارك «الحسم» وأمتار «الحسم»، وأنفاق «الحسم»، دون أن يتم أي حسم باستثناء مسألة واحدة، والتي حُسمت تماماً وهي أن لا مجال لأي حسم.
حسب نتنياهو سيتمّ الحسم من خلال «احتلال» ما تبقّى من القطاع، وخصوصاً احتلال كامل مدينة غزّة، والمخيمات الوسطى.
إذا كان الإنسان متوازناً من الناحية الذهنية والعصبية فعليه أن يسأل نفسه السؤال التالي:
هل لدى نتنياهو تعريف محدّد للحسم؟ حسم ماذا بالضبط؟
الاحتلال بحدّ ذاته لم يحسم، ولا يحسم الآن، ولن يحسم مستقبلاً. بل على العكس، والذي أراه هنا هو أن الاحتلال لما تبقّى من القطاع هو المدخل المباشر لعدم الحسم.
سيحتاج جيش الاحتلال والإجرام لآلاف من الجنود يقاتلون بين أزقّة، أو ما تبقّى، أو سيتبقّى منها مقابل مئات، وربّما آلاف من المقاتلين الذين يتقنون هذا النوع من القتال، ويعرفون كيف ينقضُّون على قوات الاحتلال، مستندين إلى معرفة «جغرافية» المكان، ومداخله، ودهاليزه وأنفاقه، ومستندين إلى روح قتالية عالية بالمقارنة مع جنود جيش الاحتلال.
واحتلال ما يهدّد نتنياهو باحتلاله لا يحلّ له أيّ مشكلة، ولا يحقّق له إنجازات حقيقية من الناحية العسكرية.
ولأن قيادة جيش البطش تعي جيداً، وأكثر من أيّ طرف هذه الحقيقة فإن الهدف من «الاحتلال» لا يمكن أن يكون الحسم، وخطر «التوحُّل» هنا أكبر بكثير من خطر الذهاب إلى صفقة، والاكتفاء بالضغط بوساطة المزيد من الحصار أجدى وأهمّ وأقلّ مغامرة.
عندما وصلت الأمور في الدوحة إلى درجة أن يتمّ اتخاذ القرار بها، انتفض ستيف ويتكوف بصورة مباغتة، وأعلن عن الفشل في إتمامها، لأن رئيسه دونالد ترامب نفسه بات على قناعة أن الصفقة ليست سوى بداية انهيار إسرائيلي أكبر بكثير من قدرته وقدرة نتنياهو على تحمُّلها، ليس بسبب تشدُّد «حماس» مطلقاً، وإنّما بسبب «عدم» تشدّدها، وبسبب المرونة التي أسقطت كل الذرائع والحجج التي كانوا يراهنون عليها. ولم يتبقَ لديهم سوى تفجير الحوارات والمفاوضات في اللحظات الأخيرة.
ويتكوف، العقاري الذي أصبح في عداد رجال السياسة والدبلوماسية الأميركية في عهدها الأغبر أدرك بحسّه العقاري الدفين أن الصفقة ستعني انكفاء جوهريا في مشروع التهجير، واقتصاره ربّما على مراهنات هامشية، كما أنها ستعني الدخول في مرحلة التسويات الإقليمية التي ستجرّد الإدارة الأميركية من عناصر أساسية، وأوراق رابحة في إطار هذه الترتيبات.
فهم ترامب ومعه نتنياهو أن استمرار الحرب هو الحل الوحيد، واستمرار التهديد بها في لبنان، وعلى إيران هو الوسيلة المتاحة حتى هذه اللحظة، وفتح ملفّ «الحشد الشعبي» في العراق أصبح على جدول الأعمال.
قلنا عشرات المرّات إن الفشل في حسم أيٍ من ملفات الإقليم، مهما كانت عظمة وأهمية الإنجازات الميدانية والاستخبارية التي حقّقها التحالف الأميركي الإسرائيلي لا يعني سوى شيء واحد، وهو أن هذه الإنجازات لا تصنع انتصاراً، وأن خسارات أطراف المقاومة لا تصنع هزيمة، طالما أن الحرب في نهاية المطاف ليست متكافئة، وأنّ حلف شمال الأطلسي، و»الغرب» كلّه، وبقيادة أميركا، وكل ثقلها على كل مستوى وصعيد عندما يفشلون بحسم الحرب والانتصار فيها، وهذا هو جوهر المعادلة القائمة اليوم.
الحقيقة أنه لا يوجد لدى نتنياهو ما يحسمه، وخطة جيشه كما هو مُعلن على رؤوس الأشهاد، وعلى لسان رئيس أركانه نفسه هي من أجل «تحسين» شروط كيانه في الصفقة، لأن «الحسم» الذي يتشدّق به رئيس حكومة الإبادة هو أكبر خطر على جيشه، وعلى دوره، وعلى مستقبله.
إذا التزم وانضبط جيش البطش لمعركة «الحسم» باحتلال ما تبقّى من القطاع لاعتبارات قانونية ودستورية ستنفجر الأمور داخلياً بمقاييس جديدة، وغير مسبوقة، ولا يستبعد أبداً أن نشهد عمليات تمرُّد وازنة، وتفكُّكات في بعض الوحدات المتقدّمة، ولا يستبعد أن تحصل انهيارات كبيرة في كامل المبنى السياسي في دولة الاحتلال.
إذا قرّر نتنياهو احتلال كامل القطاع عسكرياً، وأصبح هو المسؤول المباشر عن أكثر من مليوني فلسطيني ستتلاشى مسؤولية «حماس» عن الواجهة السياسية، ولن يكون لـ»حماس» وللفصائل أيّ دورٍ سياسي مباشر، وستقتصر مهمّتها على القتال بقدر ما تتمكّن وتستطيع، وستتورّط دولة الاحتلال إقليمياً ودولياً أكثر فأكثر، وستعرّض الإقليم إلى أخطار أكبر من كلّ الأخطار السابقة، وستسقط كل مراهناتها على القوى التي تتظلّل بظلالها في لبنان والعراق، وقد ينفجر في وجهها الوضع السوري كلّه.
كانت معركة مستشفى الشفاء معركة «حياة أو موت»، ثم معركة خان يونس، ثم رفح، ثم «محور فيلادلفيا»، واليوم غزّة، وغداً معركة جديدة، أما بعد غدٍ فمعركة فاصلة، واليوم الذي يليه معركة لا بدّ منها، وبعد عدّة أشهر سيعود «الحسم» إلى عناوين جديدة من الإبادة والتجويع والتهجير، وهكذا إلى ما لا نهاية.
هذه هي الإستراتيجية الثابتة الوحيدة في عُرف هذه الحكومة الإبادية، وعُرف هذا «الائتلاف الفاشي».
أجزم بأن نتنياهو هو الوحيد الذي يعرف حجم الأزمة الإسرائيلية، وهو يعرفها أكثر من قادة جيشه الفاشي، وأكثر بكثير من قادة «المعارضة»، ويعرفها أكثر من ترامب، خصوصاً وأن الأخير لم يعد لديه من القدرات الذهنية ما يكفي للإحاطة المطلوبة بهذه الأزمة، ولذلك فإن قدرته على توريط كل الإقليم، وكل الأطراف الداخلية الإسرائيلية، بل وتوريط العالم كلّه هي قدرة عالية ومذهلة لأن كل الآخرين في الداخل الإسرائيلي، وفي المحيط الدولي والإقليمي ليست لديهم المعطيات الدقيقة لحجم الأزمة الإسرائيلية لجهة احتمالات الانفجار الداخلي، ولجهة التصدُّع والتفكُّك الذي يبدو وكأنه بات محتوماً، ولجهة الأيديولوجيا التي بات لها أدوات قاتلة ستلجأ إليها في اللحظات الحاسمة من هذه الأزمة.
نتنياهو يكذب عندما ذهب إلى «الاحتلال والحسم»، ويكذب إذا تراجع، ويكذب عندما يتحدث إلى الجمهور، وعندما يتحادث مع قادة العالم، لكنه صادق حتى النخاع في مسألة واحدة، وهي عدم وقف حربه الدموية.
الإحصاءات تؤكّد كل الأكاذيب، وتؤكد أنه صادق باستمرار الحرب الإبادية.
فها هي «حماس» تعلن أنها ليست معنية بأن تكون في سدّة الحكم في القطاع وسلاحها لم يعد يشكّل أيّ تهديدٍ حقيقي إذا أوقفت دولة الاحتلال حربها العدوانية، وفكّت الحصار، وانسحبت من القطاع.
أي أن كل عناصر الصفقة التي كانت تتحدث عنها دولة الاحتلال متوفرة بعد أكثر من 22 شهراً من حرب الإبادة على القطاع، دولة الاحتلال مقدمة على مرحلة جديدة من الإجرام بصرف النظر عن القرار الذي سيخرج عن اجتماع حكومة الإبادة والإجرام هذه الليلة.
والقرار هو، استمرار الإبادة والتجويع علّ ذلك يعطي لها صورة تكون قادرة بموجبها على الذهاب إلى صفقة وكأنها قد «حسمت» الحرب الإجرامية بانتصار كبير لصالحها.
من سوء حظ نتنياهو، ومن سوء حظ هذه الحكومة أنه لا يوجد في القطاع من هو مستعدّ للمساعدة في حصول دولة الاحتلال على ما تهدف للوصول إليه.
ومن سوء طالع دولة الاحتلال كلها أن معركة «الحسم» النهائي هي أطول معركة ستخوضها، وأكثرها صعوبة، وأثقلها على صعيد الأثمان من كل جانب، وفي كل اتجاه ومجال.