هاني المصري: لماذا أدّى اغتيال شيرين أبو عاقلة إلى صحوةٍ فلسطينيةٍ كبرى؟
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
كان إحياء ذكرى النكبة هذا العام مختلفًا؛ كونه جاء بعد ما شهدته الأراضي الفلسطينية من تطوّرات ونضالات وعمليات مقاومة واقتحامات، وبصورة خاصة في القدس والأقصى ومخيم جنين وداخل الخط الأخضر. وأدى استشهاد أيقونة الصحافة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، إلى وحدة اخترقت كل الأديان والفصائل والحدود والتجمعات تجلّت في أطول جنازة تشهدها فلسطين، وبلغت الذروة في انتصار الجثمان والعلم على الدولة النووية التي يقال إنها تملك رابع أقوى جيش في العالم.
السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا حصلت شيرين على كل هذا الحب والإجماع الذي لم نشهد مثله من قبل منذ اغتيال ياسر عرفات ورحيل محمود درويش وغيرهما من القادة والرموز الوطنية والثقافية؟ قد يكون الجواب: أنّ شيرين، على الرغم من كل صفاتها الإنسانية والمهنية الراقية، من خارج “السيستم”، وهي إنسانة عادية تشبه الشعب الفلسطيني، وخصوصًا الناس العاديين البسطاء، وهي عكست نبض الناس وهمومهم وتطلعاتهم خلال عشرات السنين بحضورها اللافت من خلال قناة الجزيرة، القناة الأشهر والأكثر تأثيرًا في العالم العربي، إلى كل بيت وفي كل المراحل؛ حيث غطّت الأحداث بأمانة ومهنية وموضوعية ونقلت الحقيقة وكانت وراءها في كل مكان؛ لأن فلسطين والحقيقة توأمان كونها قضية عادلة ومتفوقة أخلاقيًا.
شيرين والجمع بين الرموز
جمعت شيرين كل الرموز، فهي التلحمية والمقدسية، ورحلت في ذكرى النكبة المستمرة التي أحياها الفلسطينيون هذا العام كما لم يفعلوا منذ سنوات طويلة، كما أنها كان ضحية عملية قتل بدم بارد من دون وجود أي داعٍ لذلك؛ إذ لم تكن هناك اشتباكات، وإنما يعكس ذلك هوس الاحتلال الغبي بالقتل الذي يمارسه بحق الفلسطينيين بشكل دائم من دون عقاب. فما من شك فيه أن الصحافيين هذه المرة كانوا مستهدفين مثلما استُهدف عشرات الصحافيين والكتاب طوال تاريخ النضال الفلسطيني؛ ما جعل شعار “بالدم نكتب لفلسطين” شعارًا واقعيًا تمامًا، لأن مكان تواجد الصحافيين المعتاد معروف للجميع، وهم يحملون كل العلامات التي تميزهم، وهم مستهدفون دائمًا، وفي هذه المرة من أجل الانتقام الإسرائيلي واستعادة الروح المعنوية المفقودة للإسرائيليين بعد العمليات الفردية؛ ذلك لترويعهم ومنعهم من مواصلة تغطية جرائم الاحتلال، وخصوصًا الجرائم القادمة المدبرة بحق جنين ومخيمها الأسطورة، ولكن الشيء غير المؤكد حتى الآن ما إذا كانت شيرين بحد ذاتها مستهدفة، وهذا ليس مستبعدًا كليًا.
لقد استشهدت شيرين في مخيم جنين الأسطورة، وسارت جنازات لها في طول البلاد وعرضها من جنين، مرورًا بنابلس جبل النار، ورام الله، وانتهاء بالقدس، وما حصل في جنازتها من اعتداء وحشي على الجثمان والمشيعين أعطى للحدث أبعادًا ميلودرامية غير مسبوقة؛ حيث شاهد العالم كله جنود الوحدات المختارة وهم يستهدفون الصحافيين في وضح النهار وأمام الكاميرات، ويستهدفون العلم لأنه رمز الهوية والوطنية والشاهد على أن فلسطين للفلسطينيين والقدس عاصمتهم الأبدية وأن الاحتلال إلى زوال، و يضربون المشيعين، بمن فيهم حملة الجثمان الذين استبسلوا لكي لا يسقط على الأرض، ولم يسقط، بل سقطت دولة الاحتلال كما لم تسقط من قبل، وبدت ضعيفة على الرغم من أنّها مدججة بالسلاح وعاريةً حتى من ورقة التوت.
شعب بحاجة إلى رموز جديدة ووجد ضالّته في شيرين
وحتى يكتمل الجواب عن سؤال المقال، لا بد من ملاحظة أن الفلسطينيين أسقطوا نقمتهم على الاحتلال وما يعانوه من سياساته، وآمالهم بالانعتاق منه، على شيرين التي تجسد رمزًا من الرموز الفلسطينية في مقارعة الاحتلال، كما لا بد من الإشارة إلى أن القضية الفلسطينية تمر بمرحلة انتقالية حاسمة طالت، ولكنها ستنتهي إلى مرحلة جديدة، فبعد الهبوط العارم الذي تجلى بالتوغل السرطاني الاستيطاني، والقضم المتدرج للأرض، والضم الزاحف، والمضي في تهويد القدس وأسرلتها، لدرجة فرض التقسيم الزماني على الأقصى تمهيدًا لفرض التقسيم الزماني والمكاني وتشريعه على طريق هدم الأقصى وبناء “هيكل سليمان” الثالث على أنقاضه، والسعي الحثيث لتصفية القضية من مختلف أبعادها؛ نشهد إرهاصات النهوض المتعاظم في هبات وموجات متلاحقة ما أن تخبو واحدة لتعلو أخرى، من انتفاضة السكاكين والدهس بالسيارات، إلى ملاحم الصمود والبطولة في الأقصى والقدس ونموذج المرابطين والمرابطات في هبة البوابات وما بعدها يدل على أن للأقصى شعبًا يحميه، ومسيرات العودة، وأسطورة مخيم جنين، وهبات وموجات الشيخ جراح وسلوان وباب الرحمة وبيتا وغيرها الكثير، وإضرابات الأسرى الملحمية، وهبات شعبنا في الداخل وكل مكان وصولًا إلى صمود وبطولة ومقاومة غزة التي وصلت الذروة في معركة سيف القدس، وعمليات المقاومة الفردية المؤلمة للاحتلال في عقر داره التي شهدها هذا العام، والتي هزّت نظرية الردع والأمن الإسرائيلي من الأعماق.
وفي المرحلة الانتقالية التي نعيشها، تجري محاولات متزايدة ومتلاحقة للعودة إلى الأصول وجذور القضية من أجل العودة لتجسيد وحدة القضية والأرض والشعب والرواية التاريخية، بعد أن سقطت وعود السلام الزائفة، ومحاولات شرذمة الفلسطينيين وتفتيتهم والإستراتيجيات الأحادية السلمية أو المسلحة، كما سقطت الدعوات حول “نعمة” الانقسام بزعم أن الوحدة ستكون حتمًا على أساس أوسلو، لذا ستكون لصالح فريق ضد الآخر، مع التسوية وضد المقاومة، فالانقسام ليس نعمة، بل نقمة كاملة، ووقوعٌ فلسطينيٌ في الفخ الإسرائيلي الذي نصبه أرئيل شارون. فالوحدة يجب أن تكون وطنية وتنتصر للقضية، أو لا تكون أبدًا، وحتمًا ستكون؛ لأن الشعب موحد، وسيفرض إرادته عاجلًا أو آجلًا على الجميع.
الصحوة الكبرى بحاجة إلى البناء عليها
وما يساعد على تفسير الصحوة الكبرى التي خلقها اغتيال شيرين أن هذه المرحلة تشهد نهوضًا للثقافة والهوية الوطنية للتعويض عن الهبوط السياسي وتراجع وتقادم وترهل القوى والقيادات القائمة، وعجزها وتخلفها عن قيادة شعب مصمم على الحياة؛ ما فتح الباب للمقاومة الفردية والجهوية، وهي مهمة كونها تسد جزءًا من الفراغ، ولكنها انعكاس لمأزق شامل يعيشه النظام السياسي بمختلف مكوناته، مع أن أطرافه لا تتحمل المسؤولية عنه بنفس الدرجة، فلا يمكن للعمليات الفردية والمقاومة المحلية وتقديس العفوية أن تكون ردًا ولا حلًا ولا بديلًا من المواجهة الشاملة المنظمة المستندة إلى قيادة واحدة تتسلح بإستراتيجية مستندة إلى رؤية عميقة لظروف الصراع وأبعاده، والدروس المستفادة، وما الذي يمكن عمله في ظل التغيرات العاصفة التي يشهدها العالم والمنطقة، والتي ستنعكس على فلسطين إن لم يكن انعكاسها قد بدأ. وفي هذا السياق مثلت شيرين تلبية للحاجة إلى القيادة الجديدة، فهي ليست محسوبة على حزب أو طائفة – على الرغم من أنها مسيحية – أو فريق لأنها تمثل صوت فلسطين.
احتلال لا يفرق بين مسلم ومسيحي ولا بين معتدل ومتطرف
إن استهداف شيرين نموذجٌ صارخٌ على أن الاحتلال يستهدف الفلسطيني لأنه فلسطينيٌ، سواء إذا حمل السلاح أو الميكرفون والكاميرا، أو إذا كان مسلمًا أو مسيحيًا، معتدلًا أو متطرفًا؛ لذلك رأينا الوحدة التي تجلت بين الفلسطينيين واستمرت لأيام والتي فُقِدَتْ منذ زمن بعيد؛ حيث وقف الإنسان العادي غير المسيس الذي لم يسبق له أن شارك في أعمال المقاومة السلمية أو المسلحة إلى جانب المسيس والمناضل، والوطني الليبرالي إلى جانب الوطني اليساري والوطني القومي والوطني الديني، والمسلم إلى جانب المسيحي، والعلماني إلى جانب غير العلماني، والغني إلى جانب الفقير، والصغير إلى جانب الكبير، والمرأة إلى جانب الرجل، وابن وبنت الضفة إلى جانب ابن وبنت غزة وأراضي 48 وفي أماكن اللجوء والشتات؛ ما يدل مرة أخرى بشكل ساطع أن الشعب واحد والقضية واحدة وأن ما يقسم الفلسطينيين عابر في زمن عابر ، فما يوحد الفلسطينيين أكبر بكثير مما يفرقهم.
ملحمة شيرين بحاجة إلى قيادة من نوع جديد
أثبتت ملحمة شيرين أن الفلسطينيين بحاجة إلى قيادة من نوع جديد لا تعيد إنتاج ما قدمته الأطر والقيادات القائمة؛ لأنها وصلت بعد تضحياتها وإنجازاتها إلى طريق مسدود، وتبدو انتظارية وعاجزة، وهم بحاجة إلى أبطال عاديين يمثلون ويشبهون شعبهم، ويناضلون من أجل الوطن والمواطن من دون توظيف نضالهم لفصيل أو أجندة أو محور، فشيرين لكل الفلسطينيين، فجمعت في جنازتها الرئيس إلى جانب الغفير، ولكن هذا لا يكفي، فما الإجراءات والخطوات التي اتخذت لوضع قرارات الإجماع الوطني موضع التنفيذ.
لقد بدت دولة الاحتلال بجريمتها ضد الصحافيين التي أدت إلى استشهاد شيرين وجرح علي السمودي، متوحشة ومدانة ومعزولة وضعيفة وغبية كما لم تكن من قبل. فخسرت معركة الإعلام والرواية والحقيقة، وأظهرت حقيقتها المخيفة، وأكدت أن مصيرها معروفٌ، ولا يبقى إلا معرفة متى ستعبر في الزمن الفلسطيني الممتد، فالفلسطيني أبقى قضيته حية بعد 74 عامًا، ومستعد لإبقائها حية حتى تنتصر.
وعلى أهمية ما شهدته الأرض الفلسطينية منذ بداية العام، وتوحد الفلسطينيين دفاعًا عن الأقصى وكنيسة القيامة، الذي وصل ذروته بتوحيد دم شيرين للفلسطينيين أينما وجدوا، ومع أنه مهم وعظيم وجسّد لحظة نهوض كبرى قابلة للبناء عليها، ولكن لم يُحدِث الاختراق المطلوب والانعطافة الكبرى التي لن تظهر حتى نغير ما بأنفسنا، ونصل إلى وضع نكون قادرين فيه على دحر الاحتلال، وإنجاز الحرية والاستقلال، والعودة، والمساواة والعدالة، على طريق تحقيق الحل التاريخي الجذري النهائي.
لقد واصل الاحتلال، في العام الماضي، مخططاته الرامية إلى مصادرة وتهويد واستعمار أكبر مساحة من الأرض، وطرد أكبر عدد ممكن من أصحاب البلاد الأصليين، وهدم المنازل وتهجير أهلها، كما تواصلت سياسات التمييز العنصري، ومحاولات تهميش القضية من خلال التطبيع والتتبيع وتجاهلها الدولي، والتعامل معها باعتبارها قضايا ومسائل منفصلة عن بعضها البعض، ومتعلقة بالأمن والاقتصاد وتأمين سبل المعيشة، لا لشيء سوى منع حدوث الانفجار الكبير.
لا طريق للخلاص الوطني سوى البناء على البطولات، والرهان على هذا الشعب العظيم وصموده ومقاومته، الذي هو من طينة مختلفة عن بقية الشعوب جراء ما عاناه، وهو دائمًا يتجاوز قياداته ونخبه باستمرار، ويفتح نوافذ الأمل عندما تسد كل الأبواب، وهذا بحاجة حتى يعطي ثمارًا إلى تغيير شامل في التفكير والنظام السياسي والقيادات والإستراتيجيات، وإلى إشراك الشعب، وخاصة جيل الشباب والمرأة، في اتخاذ القرار، من خلال توفير إمكانيات الاحتكام إلى الشعب، عبر صناديق الاقتراع، والتوافق الوطني الذي لا غنى عنه في ظل مرحلة التحرر الوطني وواقع أن فلسطين، بما في ذلك السلطتان المتنازعتان تحت الاحتلال، ولا حل إلا بدحر الاحتلال وهزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري.
وفي الختام، لا بدّ من مواصلة الصحوة التي خلقها اغتيال شيرين أبو عاقلة، من خلال إعادة الحياة إلى ملف إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية، ولكن ضمن مقاربة أخرى لا تعيد إنتاج الحوارات والاتفاقات السابقة التي لم تحقق الوحدة وإنما أدارت الانقسام، على أن تكون كلمة السر في المقاربة الجديدة هي الشراكة والإيمان العميق والحقيقي بها، من دون تخوين ولا تكفير ولا إقصاء ولا هيمنة لفرد أو فصيل ولا احتكار للحقيقة والوطنية والدين؛ حيث نعمل معًا على الرغم من اختلافنا لتحقيق الأهداف والأحلام المشتركة.
لقد برهنت الوحدة التي حلقت في السماء الفلسطينية بعد جريمة الاحتلال بحق شيرين أن ذلك ممكنٌ لو توفرت الإرادة.