سنية الحسيني: مستقبل التحالف الأميركي الأوروبي
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
صعدت إلى الواجهة بعد الحرب الروسية الأوكرانية أهمية تتبع العلاقات الاستراتيجية التي تربط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حيث تتصدى القوتان معاً لروسيا اليوم في هذه الحرب، رغم خلافاتهما حولها. وتوصف العلاقات الأميركية الأوروبية أو العلاقات عبر الأطلسي بأنها أهم علاقة ثنائية حول العالم، وأقوى اتحاد عالمي، يضم أعتى قوتين سياسيتين وعسكريتين واقتصاديتين تسيطران على معظم التجارة في العالم، فالطرفان أضخم شريكين تجاريين في العالم. كما تعتبر الدول الأوروبية الحليف الثابت للولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية. ورغم مرور أكثر من ٧٥ عاماً من العلاقات الأميركية الأوروبية المميزة والمستقرة والقائمة على التفاهم والتعاون والتحالف المتعدد الجوانب، واجهت هذه العلاقة العديد من الأزمات على مدار السنوات الماضية، ورغم ذلك حافظت على استمرارها وبقائها، فهل هي علاقات غير قابلة للكسر، مهما بلغت الخلافات؟
تدخلت الولايات المتحدة مبكراً بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لإنعاش الوضع الاقتصادي والدفاعي الأوروبي، الذي عانى وضعاً كارثياً بعد الحرب. واعتبرت العقيدة الأميركية أن بقاء أوروبا، التي تتشارك معها بالقيم الليبرالية الغربية، موحدة وقوية يشكل ضرورة للاستقرارها. فلعبت خطة مارشال عام ١٩٤٨ دوراً أساسياً في تشكيل العلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي. وكانت الدول الأوروبية قد بدأت في السنوات التي تلت الحرب مباشرة في تشكيل اتحاد اقتصادي أوروبي عرف بالمجموعة الأوروبية للفحم والصلب. ونسجت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة لعام ١٩٤٧، ومنظمة التجارة العالمية بعدها كأدوات لتنظيم التجارة عبر الأطلسي على الصعيد الاقتصادي. وعمل حلف الناتو بعد الحرب كآلية أساسية للتنسيق الدفاعي بين أميركا وحلفائها الأوروبيين، حيث بقيت السياسات الأمنية الدفاعية محور العلاقات عبر الأطلسي، مع ضمان بقاء تلك العلاقة تحت قيادة الولايات المتحدة. فشكلت أوروبا عمقاً استراتيجياً لأميركا وخطاً دفاعياً مهماً لصد الشيوعية منذ الخمسينات من القرن الماضي وطوال سنوات الحرب الباردة، وتعاون الطرفان الأميركي والأوروبي في نشر أفكار السوق الحرة والليبرالية الغربية.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ركزت الولايات المتحدة على ارتباطها بالدول الأوروبية الموحدة، والتي تشكل قوة عالمية مهمة، تحتاج الولايات المتحدة لدعمها، في ظل النظام الأحادي القطبية الحديث الظهور. وركزت دراسات لمفكرين أميركيين على إمكانية أن تشكل أوروبا بشقيها الأوروبي أو الأوراسي خطراً استراتيجياً حقيقياً على أميركا، واعتبروا أن الاحتواء الاستراتيجي لأوروبا أمثل الطرق للولايات المتحدة للتعامل معها، وضمان بقاء النظام الأحادي القطبية الذي تدعم أميركا بقاءه واستمراره باستماتة. على الجانب الأوروبي، تبلورت استراتيجيتان أوروبيتان مختلفتان للتعامل مع الولايات المتحدة، في أعقاب توقيع معاهدة ماستريخت، المنشئة للاتحاد الأوروبي عام ١٩٩٢، والتي ركزت على بناء القوة الاقتصادية والسياسية لأوروبا، وتبني سياسة خارجية وأمنية مشتركة لدول الاتحاد. دعمت الإستراتيجية الأولى دول مثل فرنسا وألمانيا، وتقوم على اندماج أكبر بين دول الاتحاد واستقلالية أكبر عن أي تبعية أميركية، في حين تقود بريطانيا الاستراتيجية الثانية، والتي تميل نحو التقارب والتنسيق بين الدول الأوروبية دون ذوبان للسيادة الوطنية، واقتراب أكبر من السياسات والتوجهات الأميركية. وتدعم دول أوروبا الشرقية والوسطى التي انضمت الى الاتحاد الأوروبي ما بين منتصف التسعينيات و٢٠٠٤بالاضافة الى هولندا الاستراتيجية الثانية الأقرب الى الولايات المتحدة.
ويمكن تتبع التباين بين تلك المواقف الأوروبية على جانبي تلك الاستراتيجيتين تجاه العلاقة مع واشنطن من خلال الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق عام ٢٠٠٣، فتحالفت بريطانيا مع الولايات المتحدة لغزو العراق، بينما دعت فرنسا وألمانيا ولوكسومبرغ وبلجيكا لتبني سياسة عسكرية دفاعية مستقلة عن واشنطن، خلال تلك الحرب. وطالما دعت فرنسا لاستقلال عسكري أوروبي عن أي تبعية أميركية. وكانت الحرب الروسية الأوكرانية واحدة من تلك الأحداث التي أعادت تلك المشكلة الخلافية الأوروبية إلى الواجهة. فاصطدمت المواقف الأوروبية المتباينة حول استمرار هذه الحرب، التي تدعم واشنطن بقاءها واستمرارها دون مواربة. فضحت هذه الحرب في بدايتها طبيعة التباين في التوجهات الأميركية والأوروبية خصوصاً بين الولايات المتحدة وقطبي الاتحاد فرنسا وألمانيا، ثم ظهر التفاوت بين مواقف دول الاتحاد بشكل فردي مع الموقف الأميركي، كما حدث مع المجر التي عارضت قرار الاتحاد، الذي يفترض أن يصدر بالإجماع، بمنع استيراد الغاز من روسيا، بل وقعت المجر اتفاقية جديدة مع روسيا لتوريد الغاز لمدة ١٥ عاماً.
وفي حين تضع هذه الحرب أوروبا في مأزق، لأنها على أرضها، وتستنزف مواردها وطاقاتها وتزعزع اقتصادها، خصوصاً في ظل اعتماد كثير من دولها على واردات الغاز القادمة من روسيا، كما تضع سلامتها وسكانها على المحك في أي لحظة، تبقى الولايات المتحدة المنتصر الأكبر فيها. فطالما ضغطت أميركا على دول أوروبا لتخفيف الاعتماد على مصادر الطاقة والشراكة الروسية، ونجحت من خلال هذه الحرب في إجبار دول أوروبا لتحقيق ذلك. كما أنه على الرغم من أن المساعدات الأميركية لأوكرانيا في هذه الحرب تبدو الأعلى رقمياً، إلا أن نسبة تلك المساعدات الأميركية لا تقارن مع نظيرتها الأوروبية، في حال تم حسابها بشكل فردي على أساس مستوى دخول تلك البلدان مقارنة بدخل الفرد الأميركي. كما استفادت الولايات المتحدة من هذه الحرب بعد أن قدمت بديل الطاقة لدول أوروبا مقابل أربعة أضعاف ثمنه، والذي جعل المسؤولين الأوروبيين يتهمونها صراحة بالتربح من هذه الحرب على حسابهم.
كما شكلت الخلافات الاقتصادية والتجارية عبر الأطلسي سبباً جوهرياً لتوتر العلاقات بين الطرفين الأميركي والأوروبي، فبدأت على سبيل المثال مفاوضات رسمية بينهما عام ٢٠١٣ بشأن الشراكة التجارية والاستثمار، إلا أن ١٥ جولة من المحادثات لم تنجح في سد الثغرات بينهما، وتم تعليق تلك المحادثات نهاية عام ٢٠١٦. وباتت الثغرات أكثر اتساعاً في عهد الرئيس دونالد ترامب، حيث شهدت علاقات الطرفين تراجعاً ملحوظاً، بسبب سياسته التجارية التي تمحورت حول “أميركا أولاً”. فاعتبر ترامب أن الاتحاد الأوروبي يستخدم الأدوات الاقتصادية عبر السوق الحرة للحصول على مميزات على حساب بلاده. وفرضت إدارته تعرفة جمركية على الواردات القادمة من أوروبا، خصوصاً الصلب والألومنيوم، كما تخلى ترامب عن عدد من الاتفاقيات المتعددة الأطراف مع الشريك الأوروبي، الأمر الذي جعل الاتحاد يعتبر ذلك انتهاكاً لقواعد منظمة التجارة العالمية، ويفرض رسوماً جمركية عقابية على السلع الأميركية. وبقيت العلاقات الاقتصادية بين الطرفين تواجه تحديات في عهد الرئيس الحالي جو بايدن، وتفاقمت الأزمة بشكل واضح بعد إقرار واشنطن قانون خفض التضخم، الذي يركز على تقليل واردات الولايات المتحدة من دول الاتحاد، وتقديم اعانات وتخفيضات ضريبية للشركات الأميركية خصوصاً المرتبطة بصناعة السيارات والبطاريات ومشاريع الطاقة المتجددة، والتي تعتبرها أوروبا سياسة تمييزية تضر بشركاتها، وتعتبر فرنسا ذلك انتهاكاً صريحاً لقواعد منظمة التجارة العالمية، مؤكدة أن ذلك القانون يضع مليارات الدولارات وآلاف الوظائف في أوروبا على المحك. يأتي ذلك في ظل عجز تجاري أوروبي على مستوى الكتلة بلغ ٦٥ مليار دولار خلال العام الماضي مقارنة بـ ٧ مليارات فقط في العام الذي سبقه.
كما يبرز الخلاف الأوروبي الأميركي اليوم أيضاً في ظل الحرب التكنولوجية التي تشنها إدارة بايدن أيضاً ضد الصين، ووضعها لقواعد صارمة على بيع الرقائق الإلكترونية الأميركية للشركات الصينية لقطع الطريق على الصين لتطوير صناعة أشباه الموصلات والتي يمكن استخدامها عسكرياً. وتطالب الولايات المتحدة شركاءها الأوروبيين بالتعاون معها في إطار تطبيق هذه القواعد الصارمة على الصين، وتنقسم الدول الأوروبية أيضاً حول هذه القضية، فألمانيا والمجر ودول أخرى ترغب بالاحتفاظ بعلاقات إيجابية مع الصين، بينما لا تمانع أخرى باستمرار تبعيتها لواشنطن.
جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتكشف مدى تعقد العلاقات عبر الأطلسي، وتبين كم هي على حساب الطرف الأوروبي وفي مصلحة الولايات المتحدة، الأمر الذي يجعلها محل تساؤل. إن المخاطرة بالعلاقات بين الطرفين مكلف لكليهما، وبشكل خاص للولايات المتحدة، كما أن استمرارها في ظل فرض أميركا شروط هذه العلاقة مكلف لأوروبا، فهل هي علاقة زواج كاثوليكي صعب الفكاك منه رغم التحديات؟