حكايا في زمن الحرب.. “بين الحب والشهادة: حكاية سهام وهشام”
"أنا قصة ولستُ رقمًا من أرقام الضحايا، ولا عبارة نعي تُكتب في شريط عاجل على قناة إخبارية، أنا هنا، لا زلتُ هنا، أحاول النجاة بقلبي وأحلامي وأطفالي من قلب غزة، حبيبتي غزة".
شبكة الخامسة للأنباء - غزة
حكايا في زمن الحرب إعداد: شيماء مقداد
لم تكن تعلم سهام، أو كما تحب أن ينادونها “سوما”، أنها وبعد عاماً كاملاً من الفقد، لا تزال تمتلك بداخلها القوة بعد كل خساراتها في السابع من أكتوبر؛ أولها استشهاد زوجها الصحفي “هشام النواجحة“، ونزوحها من مدينتها، وتدمير منزلها، ولا تعلم النهاية!
تقف اليوم سهام وهبة، 27 عامًا، والتي تعمل أخصائية نفسية واجتماعية ومنشطة أطفال بمؤسسة “نفس للتمكين”، كسيدة مجتمع قوية، استطاعت نفض غبار الركام ورائحة البارود وسواد الليل الحالِك عن روحها لتقف على قدميها من جديد، كي تعمل وتثبت على مبدئها برفض كل محاولات المساعدة من الغير، والاعتماد على التبرعات والأكاذيب.
تعيش “سوما” اليوم في بيتٍ صغير بمواصي مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، مع والديها بعد نزوحها من منزلها للمرة الرابعة، حيث تبدو الحياة مليئة بالتحديات بعد أن فقدت زوجها هشام الذي كان يمثل لها الحبيب والشريك، الرجل الذي احتضن كل أحلامها وطموحاتها.
حكايا في زمن الحرب.. “حاول هشام يطمني، قالي: ‘يا سوما، تقلقيش، يوم الثلاثاء إن شاء الله هكون عندك. وفعلاً كان عندي يوم الثلاثاء الساعة 9 الصبح، لكن عريس مكفن وشهيد”.
في صباح السابع من أكتوبر، وبعد مناوبة ليلية قضاها في عمله، جاء هشام لمنزله مهرولًا، فتح خزانة الملابس، كان يلقي ما يراه أرضًا، يبحث عن شيء معين، يريد تجهيز حقيبة ملابس صغيرة ليكون جاهزًا للعمل لأيام متواصلة، كحال كل الصحافيين في غزة في أوقات الحروب.
في ذلك اليوم، استيقظ كل سكان قطاع غزة على صوت الصواريخ، كذلك هشام وأسرته الصغيرة التي بدأت تُعد لغيابه. لم يعلموا أنه الذهاب الأخير، لكنهم منذ اللحظة الأولى كانوا يدركون أن القادم لن يكون عاديًا أبدًا.
تقول سهام: “قلت له: ‘يا هشام خد بس ترنج، انت مش هتطول’. قالي: ‘يا سوما، هاخد ترنج واحد وأسيب لك باقي الأواعي في الخزانة من ريحتي’. كان رده صاعقًا بالنسبة لي، وترجيته ما يطلع، لو مش عشاني عشان أولاده”.
كانت أحلام سوما وهشام المشتركة عديدة؛ بناء بيت مستقل، الدراسة للحصول على درجة الماجستير، السفر لأداء العمرة، وتأسيس حياة سعيدة ومستقرة لأطفالهما التوأم “راكان” و”إيلان”، لكن الحرب أخذت كل شيء في لحظة واحدة، أخذت هشام، وحطمت تلك الأحلام.
حكايا في زمن الحرب.. “أقمار الصحافة لهذه الليلة هم سعيد الطويل، هشام النواجحة، ومحمد صبح. عمري ما هنسى كيف كانت مكتوبة هاي الجملة حرفيًا. فتحت الفيسبوك أشوف آخر الأخبار، وأخذت أسوأ خبر في حياتي”.
انقلب عالم سهام في تلك اللحظة، كانت تلك أسوأ لحظة في حياتها. كذبت الخبر، وصارت تبحث في التعليقات. أحدهم كتب أن إصابة هشام خطيرة ويحتاج إلى الدعاء. حاولت التماسك لكنها لم تستطع، صرخت بصوت عالٍ: “هشام مش مصاب! هشام ما بيتحمل صاروخ، هشام استشهد”.
قبل دقائق فقط من فقدان الاتصال بهشام، كانت آخر مكالمة فيديو بينهما، عبر فيها عن اشتياقه لزوجته وأبنائه التوأم. حاول تهدئة خوفها وقلقها، وأوصاها بنفسها وبأبنائهما خيرًا، وأرسل لها صورته وهو يرتدي الدرع والخوذة. كانت الصورة الأخيرة له.
كان هشام بالنسبة لسهام “يمنى العين”، ومن شدة حبه لهم، أطلق عليهم مسميات؛ فكانت ألقاب أطفاله التوأم راكان “ريحان القلب”، وإيلان “تفاحة العين”، أما سهام فكانت “سكر العمر”.
حكايا في زمن الحرب.. “لما يكون الزوج حبيب وصديق وشريك، بيكون صعب الحياه ترجع زي قبل. سنة كاملة عدت، ما قدرت أتغلب ولا أتكيّف على غياب هشام. مع أن القوة موجودة والصبر موجود، بحاول ألهي نفسي بأولادي وشغلي”.
بعد رحيل هشام، أصبحت حياة سوما مختلفة تمامًا. كان هشام بالنسبة لها أكثر من مجرد زوج، هو قصة الحب التي استمرت لسنوات وتوجت بزواج رائع وطفلين. اليوم ترك في حياتهم فراغًا لا يمكن لأحد أن يعوضه.
تقول: “برغم غيابه، إلا إنه حاضر فينا، وسيرته الحلوة بين الناس بتواسينا. كان هشام رزين، حكيم، وسيم، كريم، صدوق، وكل حاجة حلوة فيه. هشام كان يستحق الشهادة، عشان هيك ربنا اصطفاه”.
كان هشام مجتهدًا، يكرس وقتًا طويلًا لعمله. وحين تلتقي العائلة الصغيرة بعد غداء يوم الجمعة، يبدأ بالاستماع للشيوخ والدعاة حول كرامات الشهيد وكرامات الميت، وكأنه يحضر نفسه للشهادة ويشتاق لها.
حكايا في زمن الحرب.. “مش خسارة فيه الجنة، لكن الفراق صعب جدًا. فخورة جدًا إني أخدت لقب ‘زوجة الشهيد’ و’سيدة الحور العين’. وحجزت غرفتي بالجنة عند هشام. أمنيتي الوحيدة إني أشوفه وأحكي معه”.
تقول سهام إن مصدر قوتها هو إيمانها بالله عز وجل، ومن ثم الأهل والأصدقاء، ومن ثم إيمانها بنفسها، وأنها قادرة على تحدي الصعاب ومواجهة الحياة بحلوها ومرها.
تتمنى سهام أن تتوقف الحرب، لتبحث عن حياة أفضل تليق بها وبأبنائها، تعوضهم من خلالها كل شيء فقدوه خلال الحرب، لتكون لهم نعم الأم والأب معًا.