تقاريرثابت

غزة: فن العيش على حافة الهاوية .. توازنات هشة في حياة تتحدى الصمود

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

غزة: فن العيش على حافة الهاوية.. تقرير خاص إعداد: هديل المزعنن

في غزة ، لا تُشرق الشمس لتعلن عن يومٍ جديد بل لتكشف عن تفاصيل واقعٍ متجددٍ من الألم. هناك في المكان الذي يتشابك فيه الفقد مع الإرادة ، و حيث تتجسد الحياة كـ”توازناتٍ متكسرة” ، يمارس البشر فنًا يتجاوز مجرد البقاء. ليس صمودًا يُروى في الكتب بل هو استراتيجيةُ وجودٍ يومية تبدأ بصوتٍ خافتٍ قد يكون إنذارًا و تنتهي بمساءٍ يمتزج فيه الترّقب بالحلم. هنا في غزة ، حيث كل لحظةٍ هي تحدٍ ، نغوص في عمق هذا الواقع المرير، لنرى كيف ينسج الإنسان خيوط حياته وسط أنقاض عالمٍ كان.

الصباح . . بداية لا تخلو من هواجس

يبدأ اليوم في غزة مبكرًا لكنه لا يبدأ بالضجيج المعهود للمدينة التي تستقبل يومًا جديدًا. غالبًا ما يكون الهدوء النسبي الذي يسبق بزوغ الفجر هو الإشارة الأولى ، ثم تتوالى الأصوات: صوت بعيد لقصفٍ قديم أو ربما صوت سيارة إسعافٍ تتجه نحو وجهةٍ مجهولة. الأمهات يستيقظن أولاً ليتأكدن من أن أطفالهن ما زالوا نائمين بسلام و لتبدأن رحلة البحث عن أبسط ضروريات الحياة لليوم. إنها لحظةٌ لا تخلو من هواجس، سؤالٌ يرتسم على الوجوه: “ماذا سيحمل لنا هذا اليوم؟” هل سنتمكن من إيجاد الماء؟ هل سيبقى أطفالنا في أمان؟ هل سيعود الزوج أو الابن من مهمته بسلام ؟ هذه الأسئلة ليست خواطر عابرة بل هي جزءٌ من طقس الصباح.

البحث عن الأساسيات . . رحلة يومية تتطلب صبراً و تكيكاً

الماء و الغذاء و الحطب ، هذه ليست مجرد سلع بل هي كنوزٌ تُطلب في غزة. تتحول مهمة تأمينها إلى رحلةٍ يوميةٍ تتطلب صبرًا لا ينفذ ، وقدرةً على التكيف مع الواقع الغير مستقر. صفوفٌ طويلةٌ تتشكل أمام صنبور مياه ، أو المخابز ، أو نقاط توزيع المساعدات. هنا لا يكون الهدوء هو القاعدة دومًا ؛ قد تشهد هذه التجمعات توترًا ، أو تبادلًا للكلمات ، لكن غالبًا ما يسود نوعٌ من التفاهم المشترك ، إدراكٌ بأن الجميع في القارب نفسه. يقول الحاج أبو أحمد ، و هو أحد الناجين من هذه الإبادة : “نحن نعرف بعضنا البعض هنا نعرف من فقد بيته ، و من فقد أبناءه و نحاول مساعدة بعضنا البعض بما نستطيع ، قد لا نملك الكثير لكننا نملك بعضنا البعض“. هذه الكلمات تلخص جوهر التوازن ، التمسك بالآخرين كمرساةٍ في بحرٍ مضطرب.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

الأطفال . . براءة رغم الجراح ، و لعبٌ وسط الأنقاض

في قلب هذه المعاناة ، يبرز الأطفال كرمزٍ للصمود الأقوى ، و للحياة التي ترفض الانطفاء. تراهم يلعبون في الشوارع يضحكون ، يركضون ، حتى و هم محاطون بآثار الدمار. إنها براءةٌ لا تُقهَر ، بل هي آليةُ بقاءٍ معقدة. يتحدث الأهل عن ملاحظتهم لتغيراتٍ في سلوك أطفالهم: البعض يصبح أكثر هدوءًا و انطواءً، يبني “جدرانًا عاطفية” حول نفسه ، بينما آخرون يفرغون طاقتهم المكبوتة في ألعابٍ قد تبدو خطيرة لمن لا يفهم السياق. “ابني الصغير زين يبني أحيانًا بيوتًا صغيرة من الأخشاب المكسورة ثم يخبرني أنها ‘بيوت آمنة لن تموت ، أشعر بالخوف عليه لكنني أرى في عينيه أملًا لا يزال يتشبث بالحياة” تقول أم محمد التي فقدت زوجها في قصفٍ سابق إنهم يلعبون و لكن لعبهم يحمل ظلال المعاناة.

العلاقات الإنسانية . . متنفّسٌ للأمل في زمن الشدة

وسط كل هذا تظل الروابط الإنسانية هي الشريان الذي يتدفق فيه الأمل. الاجتماعات العائلية، حتى و إن كانت محدودة تصبح ملاذًا. الأحاديث قد تدور حول الحاجيات الأساسية لكنها غالبًا ما تتجه نحو الذكريات الجميلة، أو الخطط المستقبلية التي تبدو بعيدة لكنها ضرورية. و قد يتبادل الجيران الطعام ، الأغطية ، و حتى الكلمات الطيبة.

نهاية اليوم . . سكونٌ مختلف وليلٌ طويل

مع غروب الشمس يعود الهدوء، و لكنه هدوءٌ مختلف. سكونٌ يحمل في طياته ترقبًا لليل و للأصوات التي قد تصحو فيه. يتجمع الناس حول مصدر ضوءٍ وحيدٍ إن توفر، يتحدثون بصوتٍ منخفض، و ربما يتبادلون الأخبار. محاولة النوم ليست دائمًا سهلة ؛ قد تداهم الأفكار، و قد تتردد أصداء الأمس. لكن في النهاية ينجح الكثيرون في الغفوة ليستيقظوا في صباحٍ آخر، ليشرعوا في ممارسة “فن العيش على حافة الهاوية” مرةً أخرى.

الأمل كوقود مستمر

الحياة في غزة كما نرصدها ليست مجرد قصة معاناة. إنها قصة توازناتٍ معقدة، لحظاتٌ متكسرةٌ لكنها متماسكة، صمودٌ لا يفهمه إلا من يعيشه. إنها دعوةٌ لندرك أن خلف الأرقام و التقارير هناك بشرٌ بكل ما في الكلمة من معنى يصارعون يوميًا للحفاظ على ما تبقى لهم من حياة، و أمل، و إنسانية. إنهم يثبتون للعالم أن الروح البشرية حتى في أشد الظروف قسوة قادرةٌ على إيجاد مساحاتٍ للأمل، و للحياة و الحب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى