تقارير

انتكاسة إسرائيل في حرب 1973: غطرسة وليس إخفاقا استخباراتيا

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

لا تزال حيثيات ونتائج حرب تشرين العام 1973، تقض مضاجع الإسرائيليين، الذين لم يتوقعوها مسبقا ويسمونها “حرب يوم الغفران”، وعلموا بخطتها عشية نشوبها فقط في أعقاب معلومة أوصلها إلى الموساد أشرف مروان، صهر الرئيس السابق جمال عبد الناصر والمستشار المقرب من الرئيس أنور السادات، بأن مصر تعتزم شن هجوم في السادس من تشرين الأول/أكتوبر. ولذلك يصف الإسرائيليون أسباب انتكاستهم في هذه الحرب بـ”الإخفاق الاستخباراتي”. وجاءت هذه الانتكاسة بعد انتصار إسرائيل في حرب حزيران/يونيو العام 1967، واحتلالها اراضي عربية واسعة، سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان.

ويرى المؤرخ الإسرائيلي، يوآف غيلبر، أن إخفاق إسرائيل في حرب تشرين العام 1973 أعمق بكثير من كونه “إخفاق اسخباراتي”، وأشار في كتاب له صدر مؤخرا بعنوان “راهف”، أي “غطرسة”، إلى أن أسباب الإخفاق تعود لسنوات إلى الوراء، وأن “العفن” كان منتشرا وفي الجيش الإسرائيلي بشكل خاص. وبروفيسور غيلبر هو باحث أكاديمي في تاريخ إسرائيل والصراع العربي – الإسرائيلي. وبعد حرب تشرين 1973، عُين محققا في “لجنة أغرانات” التي حققت في إخفاق إسرائيل في الحرب.

“كانت مهمتي في اللجنة ترتيب كميات المواد الهائلة التي وصلت إلى اللجنة، وشملت وثائق وبروتوكولات من مصادر مختلفة مثل مكتب رئيس هيئة الأركان العامة ورئيس الموساد. وقد كانت جميعها مفتوحة أمامي” وفق ما نقلت عن غيلبر صحيفة “هآرتس”، يوم الأربعاء، عشية “يوم الغفران” الذي يصادف أمس، الخميس.

وقال غيلبر للصحيفة إنه “في اللجنة بحثوا عن نقطة ارتكاز، بحيث إذا وضعنا الإصبع عليها، سنتمكن من تفسير معظم إخفاقات الحرب. وفي المقابل، ادعيت أنه لا توجد نقطة كهذه، لأنه في أي مكان تضع الإصبع عليه يوجد عفن. وتناقشنا كثيرا، وقلت أن هذا (الإخفاق) لم يبدأ هنا، وإنما قبل ذلك بكثير، وتوجد له جذور عميقة”.

وأشار غيلبر في كتابه إلى أن “حرب يوم الغفران لم تكن إخفاقا عينيا في وقت محدد، وإنما ثمرة تحولات استمرت سنوات، وكان في مركزها عدم إدراك تغيّرات طرأت لدى الخصم وفي ظروف الجبهة”. ويوجه غيلبر اللوم إلى الجيش الإسرائيلي بالأساس، وأن الإخفاق عسكري قبل أي شيء آخر، وليس استخباراتيا أو سياسيا فقط، ولم يحدث قبل الحرب بأيام، وإنما في السنوات التي سبقتها.

وأضاف غيلبر في كتابه أن “ما حدث في الجيش الإسرائيلي في 5 و6 تشرين الأول/أكتوبر 1973 لم يعكس مفاجأة نتيجة لأخطاء في التقدير، عدم فهم الإنذار أو بسبب عدم استخدام وسيلة كهذه أو تلك من أجل الحصول عليه. وتعبر أحداث اليومين اللذين سبقا الحرب بخلاصة صافية عن أمراض الجيش في السنوات الست التي سبقت الحرب”.

وتابع أن “رئيس أركان الجيش (دافيد إلعزار) أعلن عند الساعة 11:00 من يوم الجمعة، 5 تشرين الأول/أكتوبر، عن حالة تأهب ج (درجة واحدة قبل حالة تأهب قصوى). وجرى إرسال القوات النظامية كلها من أجل تعزيز الجبهات، لكن لم يتم استدعاء قوات الاحتياط التي بغيابها يصعب تأدية المهام في الحرب. ولم يرافق الإعلان عن التأهب أي تفسير لإعلانه، وما الذي ينبغي تنفيذه – إنعاش الخطط؟ فتح مخازن الطوارئ؟ تغيير خرائط السيطرة؟ نشر آليات قرب المعسكرات؟”.

وقال غيلبر إنه “قبل ساعات من نشوب الحرب، لم يتم إبلاغ الضباط بصورة الوضع، وماذا عليهم أن يفعلوا. ولم يتيقن أحد إلى أي مستوى عسكري وصل الأمر. وهيئة الاركان العامة فقدت عمليا السيطرة على الجيش. ولم تكن هناك متابعة لتنفيذ الأوامر الصادر في ذلك اليوم”.

وأضاف أنه عندما نشبت الحرب، اتضح أنه لا يوجد للجيش الإسرائيلي تحديد للهدف، وبذلك لم يكن بالإمكان التحدث عن “التمسك بهدف”. وطالبت قيادة الجيش “بمنع أي إنجاز عسكري عن العدو”. ويصف غيلبر هذه الجملة بأنها “مفندة”.

وشدد غيلبر على أن “الجيش الإسرائيلي لم يستعد أبدا للدفاع، وبدلا من الاستعداد للتصدي للعدو، استعد لعبور القناة (السويس). وبدلا من استغلال العمق الإستراتيجي الإسرائيلي من أجل التصدي، تطلع الجيش الإسرائيلي إلى نقل الحرب إلى اراضي العدو، وفيما هو يتمسك بفرضية لا اساس لها، بأنه بالإمكان لجم المصريين بواسطة 300 دبابة وبمساعدة سلاح الجو. وعانى الجيش من انفصام في الشخصية. من جهة، واضح أنه يجب الدفاع عن الحدود. ومن الجهة الأخرى انشغل طوال الوقت بما ورائها. وقبل الحرب لم تجرِ أي مداولات في شؤون الدفاع”.

ووفقا لغيلبر، فإن الجيش الإسرائيلي استعد “للحرب السابقة” وتجاهل “بتمسك وحزم وإصرار” الحرب التي ستنشب، أي أن “الجيش لم ينجح بالاستعداد لحرب مستقبلية، مع خصم مختلف عن ذلك الذي عرفه، واستمر بالتفكير في الحروب السابقة، التي انتصر فيها”.

تغيّر طبيعة الصراع

يعود غيلبر إلى حرب حزيران 1967 من أجل فهم إخفاقات حرب 1973. ويرى أن “الاستخفاف بالعدو” تغلغل عميقا في المستويين العسكري والسياسي في إسرائيل، وساهمت في ذلك دراسات وتحقيقات مع أسرى مصريين، التي عززت “الصورة السلبية” للمقاتل العربي. واستندت شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (“أمان”) إلى أن المصريين “ليس فقط أنهم لم يتحسنوا، وإنما ساء وضعهم أكثر”، وفقا لغيلبر.

وكانت قناعة قادة الجيش الإسرائيلي أن العرب ضعفاء، ولم يصدقوا أنهم باتوا أقوياء بما يكفي كي يبدأوا الحرب ويعبروا قناة السويس ويخترقوا “خط بار ليف” الدفاعي. وأوضح غيلبر أن “التفكير العسكري تركز بما يبدو أنه قالب لحرب الأيام الستة”، أي أن الحرب ستستمر لأيام معدودة، يسيطر سلاح الجو الإسرائيلي فيها على السماء والبر، وأن “يتوقف الجندي العربي عن القتال ويهرب عندما يرى دبابة إسرائيلية”.

إلا أن هذه الأوصاف كانت بعيدة عن الواقع وتجاهلت تغيرات طرأت على الجيش المصري منذ العام 1967. وشدد غيلبر على أن “الجيش المصري في 1973 لم يكن الجيش نفسه في 1967. لقد جرت فيه عملية احتراف. وانخرط آلاف الضباط في دورات أكاديمية وشاركوا في دورات تقنية بمستويات مختلفة في الاتحاد السوفييتي. وجاء آلاف المستشارين والقوات إلى مصر، من أجل تحسين الجيش المصري من الداخل. ولم يكن بالإمكان التعامل مع الجيش المصري بمصطلحات 1967. وأنكروا في الجيش الإسرائيلي بالكامل التغييرات في روح القتال، الأسلحة ومستوى الضباط” في مصر.

ولفت غيلبر إلى أن الجندي المصري العادي هرب في حرب 1967 لدى رؤيته دبابة إسرائيلية، “لكنه في حرب يوم الغفران أطلق عليها النار من مسافة صفر وأبقى الجيش الإسرائيلي مصدوما”. وعزا غيلبر هذه الصدمة بأنها نابعة من “غطرسة” إسرائيلية.

وأضاف غيلبر أنه لم يتغير الجندي المصري فقط. ورأى أن احتلال 1967 استوجب أن تعيد إسرائيل دراسة مفهومها الأمني من جذوره، كي تلائم نفسها لواقع جديد، لم يعد فيه الصراع العربي – الإسرائيلي يتمحور حول الفلسطينيين فقط، وإنما حول “سلامة، سيادة والكرامة الوطنية للدول العربية”.

وتابع أن دراسة كهذه لم تجرِ، وإسرائيل وجيشها بقيا مع مفهوم أمني تمت بلورته في بداية الخمسينيات ووفقا لواقع حرب العام 1948. ورغم أن هذا الواقع تغير بشكل كبير في العام 1967، “اعتقدت إسرائيل أنها ستدير الحرب القادمة، وهي حرب يوم الغفران، كأن معقلا عند ضفة قناة السويس هو داغانيا (كيبوتس على ضفة بحيرة طبريا) في شهر أيار/مايو 1948”.

وبحسبه، فإنه لم تكن لدى إسرائيل، بعد 1967، إستراتيجية باستثناء إخماد حرائق، الرد على ضغوط، مساومة والسعي إلى “كسب الوقت” والحفاظ على الموجود. “ولم تكن هناك إجابة على السؤال الأساسي: ما هو مستقبل المناطق المحتلة؟”.

وأشار غيلبر في كتابه إلى أن “أمان لم ينف وجود معلومات استخباراتية تحذر من حرب، لكنه نفى أهميتها. وهذا النفي لم يستند إلى حقائق وإنما إلى أمنيات، تكهنات، معتقدات وبهلوانية فكرية. وهذه كانت تعسفية مطلقة”.

وأضاف أن “آخر من علم بأن الحرب توشك على النشوب هم أول من اصطدموا بها. الجنود الإسرائيليون العاديون” الذين كانوا في المواقع العسكرية عند قناة السويس وفي هضبة الجولان والقواعد العسكرية التي قصفها سلاحا الجو المصري والسوري لدى بدء الحرب.

ردع و”صدمة قومية”؟

ولفت غيلبر إلى أن مصطلح الردع له علاقة بالعام 1973 مثلما هو واقعي في العام 2021. وفي حينه، كانت إسرائيل مقتنعة بأن المصريين لن يتجرأوا على شن حرب بعد 1967. وفي أيار/مايو الماضي اعتقد الكثيرون في إسرائيل أن حماس مرتدعة ولن تجرؤ على إطلاق قذائف صاروخية على إسرائيل. وأوضح غيلبر أن الردع “ليس أمرا حقيقيا وإنما نفسيا. وعندما يتوقف مفعوله على المرتدع، لا يعي الرادع ذلك ويعيش في وهم أن الردع مستمر”.

وأضاف غيلبر انه “في 1973 توقف المصريون عن الارتداع، وأعدوا حربا. وإسرائيل، في حينه، كانت متأكدة من أن الحرب ستنشب في العام 1978 فقط. وقبل خمسة أيام من نشوب الحرب، يتحدث رئيس اركان الجيش الإسرائيلي عن 1976 أو نهاية 1975 كموعد محتمل. ولم يختلف أحد مع ذلك”.

وينفي غيلبر أن إسرائيل واجهت “صدمة قومية” في حرب 1973، ويصف هذا المصطلح بأنه “تضليل” مارسته وسائل الإعلام، وهو نتيجة اتجاه عالمي. “ولا يمكن نقل صدمة أفراد إلى المستوى القومي، مثلما لا يمكن أخذ مجموعة ذكريات فردية وتسميتها ذاكرة جماعية. فلكل واحد ذكرياته الخاصة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى