تقاريرثابت

الشتاء كسلاح حرب آخر.. المنخفض الجوي يعمّق جراح النازحين ويدمر ما تبقى من بنية تحتية

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

الشتاء كسلاح حرب آخر .. تقرير خاص إعداد: خليل قنن

لم تكن القذائف والصواريخ وحدها مَن يتربص بأرواح الغزيين هذه المرّة. فقد تحول الشتاء، الذي كان يُنتظر كبشائر خير و”سقيا رحمة”. إلى “سلاح حرب” جديد يفتك بما تبقى من أجساد أنهكها الجوع والنزوح المستمر.

ومع دخول المنخفض الجوي العميق أجواء القطاع، استيقظت خانيونس وشمال غزة ورفح على فصول مأساة جديدة. بطلها البرد القارس والسيول التي جرفت معها آخر ملاذات النازحين. لتضع مئات الآلاف أمام اختبار بقاء هو الأصعب منذ بدء العدوان.

موت تحت المطر والركام.. 14 شهيداً في حصيلة أولية

لم يعد الحديث يقتصر على قسوة البرد فحسب، بل تحول سريعاً إلى “عداد للموت”. ففي تطور ميداني مفجع، أعلنت وزارة الداخلية بغزة عن ارتقاء 14 شهيداً، بينهم نساء وأطفال. في حصيلة أولية لضحايا المنخفض الجوي المستمر منذ الأربعاء. هؤلاء الضحايا لم يسقطوا بقذائف مباشرة، بل قضوا نتيجة الانهيارات الكلية والجزئية للمنازل والمباني المتصدعة التي هوت فوق رؤوس ساكنيها. أو استسلمت أجسادهم للزمهرير.

قناة واتس اب الخامسة للأنباء

ومن بين قصص الألم التي خلفها هذا المنخفض. تبرز مأساة طفلة رضيعة (9 أشهر) في خانيونس. تجمدت أطرافها الصغيرة وفارقت الحياة نتيجة البرد الشديد وغياب وسائل التدفئة.

وفاة هذه الرضيعة وسقوط الضحايا الـ 14 هو جرس إنذار دموي يشي بأن الموت في غزة بات يأتي من السماء مطراً وركاماً. مهدداً مئات الأطفال والعائلات التي اعتقدت أنها نجت من القصف، لتواجه الموت تحت الأنقاض المبللة.

طوفان في الخيام.. ليلة بلا نوم

ميدانياً، تحولت مناطق الإيواء في “المواصي” ورفح ودير البلح إلى برك موحلة واسعة. المشهد هناك يبدو سرياليًا ومفجعًا؛ خيام متهالكة -تُقدر نسبتها بـ 93% بحسب تقييمات ميدانية حديثة-. لم تصمد أمام سرعة الرياح التي اقتلعت أوتادها، وغزارة الأمطار التي اخترقت أقمشتها البالية. العائلات قضت ليلتها “واقفة” تحاول نزح المياه بالأواني البلاستيكية، في معركة خاسرة ضد السيول.

المياه لم تغمر الفرش والأغطية فحسب، بل اختلطت في كثير من المناطق بمياه الصرف الصحي التي فاضت في الشوارع. مما حول مراكز النزوح إلى بؤر للأوبئة، وينذر بكارثة بيئية وصحية تلاحق مئات الآلاف من الأسر التي باتت بلا سقف يحميها.

أزمة التدفئة.. البحث عن الدفء في القمامة

وما يزيد من قسوة المنخفض هو “أزمة التدفئة” الخانقة. فمع الحصار المطبق ومنع دخول الوقود والغاز، ومنع الاحتلال لإدخال الملابس الشتوية والبطانيات. وجد النازحون أنفسهم مضطّرين لإشعال النيران في البلاستيك والملابس القديمة وحتى النفايات للحصول على قليل من الدفء لأطفالهم. هذا الحل اليائس تسبب في حالات اختناق عديدة ومشاكل تنفسية حادة داخل الخيام المغلقة. ليجد النازح نفسه مخيراً بين الموت برداً أو الموت اختناقاً بالدخان السام. في ظل شح الأدوية وتدمير القطاع الصحي.

انهيار ما تبقى من البنيان

لم يقتصر دمار المنخفض على الخيام الهشة. بل طال المباني الخرسانية التي نخرها القصف سابقًا وتركتها الهجمات المتكررة بلا نوافذ أو جدران تحمي ساكنيها.

ففي حي النصر شمالي القطاع. انهار مبنى سكني مكون من ثلاثة طوابق بعد أن تآكلت أساساته وتشبعت بمياه الأمطار الغزيرة.
هذا الانهيار -وغيره مما تسبب في سقوط الضحايا- يشي بأن آلاف المباني المتصدعة باتت “قنابل موقوتة” تهدد ساكنيها مع استمرار الأحوال الجوية السيئة. حيث لا مأوى بديل ولا آليات لإزالة الركام أو تدعيم الأساسات.

نداءات استغاثة وسط العجز

وأمام هذا المشهد القاتم، يقف جهاز الدفاع المدني عاجزًا عن تلبية طوفان الاستغاثات. المتحدث باسم الجهاز، محمود بصل، أكد أن طواقمه تلقت قرابة 2500 نداء استغاثة في غضون ساعات قليلة. وهو رقم يفوق قدرة أي جهاز طوارئ يعمل في ظروف طبيعية. فكيف بجهاز دُمرت معداته الثقيلة ونفد وقوده بفعل الاستهداف الإسرائيلي الممنهج؟ رجال الإنقاذ يضطرون الآن للسير على الأقدام لمسافات طويلة وسط الوحل. يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه بأيديهم العارية وبأدوات بدائية، في مشهد يعكس تخلي العالم عن أبسط واجباته الإنسانية.

الشتاء والحصار.. المطرقة والسندان

في المحصلة، يغدو هذا المنخفض الجوي كاشفًا لعورات المجتمع الدولي، ومؤكدًا أن ما يجري ليس مجرد كارثة طبيعية. بل “كارثة مركبة” صُنعت بفعل فاعل. فالاحتلال لا يزال يستخدم “فيتو” منع إدخال الخيام والشوادر البلاستيكية كأداة ضغط عسكرية. مما يترك قرابة 288 ألف أسرة في مواجهة مباشرة مع العراء.

وبهذا، يقع المواطن الغزي بين مطرقة القصف وسندان الصقيع. في انتظار صحوة ضمير عالمية قد تأتي أو لا تأتي. بينما يواصل الشتاء نهش ما تبقى من خيامهم.

هدوء القصف وضجيج الموت

ومع استمرار التحذيرات من اشتداد المنخفض في الساعات القادمة. تبقى عيون النازحين معلقة بالسماء، لا انتظارًا للغيث، بل خوفًا من أن تجرف السيول ما سترت به أجسادهم وأجساد أطفالهم.

إنها ليلة أخرى من ليالي الرعب البارد، يتقاسم فيها الغزيون الألم والقهر. متسائلين عن جدوى “الهدوء” المزعوم إن كانوا لا يزالون يُحرمون من حقهم البدائي في “سقف وجدار” يقيهم غضب الطبيعة وغدر الخروقات المستمرة.
ورغم الإعلانات الرسمية عن انتهاء الحرب. إلا أن الواقع في غزة يقول شيئًا آخر؛ فالموت لا يزال يتربص بالأبرياء سواء عبر القذائف التي تخرق الهدنة. أو عبر الصقيع الذي يفتك بالخيام والبيوت المتداعية.

اليوم، لم يعد سؤال الغزي عن موعد توقف المدافع فحسب. بل بات سؤاله الأكثر قسوة وإلحاحًا أمام هذا الخذلان العالمي: “كيف سننجو من هذه الليلة؟”. فبينما يتدثر العالم في أسرته الدافئة. يكتب أطفال غزة ببرد أطرافهم شهادة حية على أن الحرب قد تكون انتهت بالاسم، لكن فصول معاناتهم بدأت للتو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى