مقالات الخامسة

عبد الغني سلامة: ثلاثة تلسكوبات، غيّرت وجه العِلم

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

كتب الصديق أحمد عقل عن التلسكوب الأول، تلسكوب غاليليو، موضحاً أن مراكز الرصد الفلكي في العصر العباسي كانت قريبة جداً من النتائج التي توصل إليها «غاليليو»، ولكن العلماء المسلمين لم يستوعبوا النتيجة، فافترضوا وجود خطأ في حساباتهم، خاصة مع ضعف المعدات المتوفرة آنذاك، وبذلك ضيّعوا على أنفسهم أسبقية أهم اكتشاف في تاريخ العلم.
وطبعاً، لم يكن لغاليليو التوصل لاختراع تلسكوبه لولا علوم من سبقوه، خاصة نظريات «ابن الهيثم» في البصريات، وتجارب «البيروني» لقياس محيط الأرض (القرن العاشر)، وتجربة العالم السكندري «إراتوستينس» (القرن الثالث ق.م).
ويورد عقل مفارقة أخرى مشابهة، حيث كان «آينشتاين» أول من اكتشف تمدد الكون، ولكن عقله رفض نتيجة حساباته، فجاء «إدوين هابل» ليعلن بعده بسنوات عن نظريته في تمدد الكون، ويحوز على المجد.
قبل «غاليليو» كانت الكنيسة الأوروبية تخوض حرباً شرسة ضد الفلسفة والتنوير، بما في ذلك الفلسفة العربية، خاصة كتب ابن رشد وابن سينا وغيرهما ممّن كانت أفكارهم حول العقل والميتافيزيقا تنتشر بقوة، لكن الفكر الفلسفي، سواء العربي أم الأوروبي، والذي كان سائداً آنذاك، كان معتمداً على نظريات بطليموس في الفلك، والتي تفترض أن الأرض محور الكون، حتى جاء «غاليليو» وأثبت خطأها، وبرهن أن الشمس لا تدور حول الأرض، إنما العكس صحيح، بل وإن الشمس ومجموعتها كلها، بما فيها الأرض، لا تحتل أي موقع مميز في الكون.
بهذا الاكتشاف الذي يبدو لنا الآن بديهياً، من خلال تلسكوبه البسيط، يهدم «غاليليو» كل الفلسفة الإغريقية والرومانية التي عمّرت ألفَي سنة، وينسف كل ما سلف، ويفتح الباب على مصراعَيه للعلم والتجربة والعقل، فاسحاً المجال من بعده لظهور جيل جديد من الفلاسفة كرسوا حياتهم لتأسيس منهج علمي صحيح، قائم على تحرير العقل من التصورات القديمة العالقة، والتي كانت بمثابة مسلّمات وبديهيات. ما سمح بتطور الفيزياء إلى حد لم يكن العقل البشري ليستوعبه، أو حتى مجرد تخيله. وما كان ذلك ليتحقق لولا تحرير العقل من الأوهام والخرافات، ونزع القداسة عن العلم.
بعد «غاليليو» تطورت التلسكوبات بشكل كبير، حتى ظهر منها جيل جديد سمح للعلماء بالغوص عميقاً في الكون الفسيح، كان أولها تلسكوب مرصد هارفارد، ثم تلسكوب هوكر في كاليفورنيا، لكن النقلة الأهم في التلسكوبات جاءت على يد الفلكي هابل؛ حين اكتشف أن هذا الفضاء المرئي لم يكن سوى مجرة هائلة اسمها «درب التبانة»، وأن هذا السديم المتكثّف والمركّز في زاوية قصية من السماء عبارة عن مجرة أخرى اسمها «أندروميدا»، وأن الكون يضم مليارات المجرات.
ومع كل صورة كان يلتقطها، تبين له أن الكون يزداد حجماً، لكن المشكلة التي واجهته أن تلك الصور كانت باهتة، فجاء تلسكوب تشيلي العظيم، وتلسكوب مرصد كيك في هاواي ليعطيا صوراً أوضح. ولكن ظلت مشكلة الغلاف الجوي وما يسببه من تشويش على الصور، فصار لزاماً على الجيل الجديد من التلسكوبات أن يتحرر من هذا الغلاف، وما أن جاء العام 1990 حتى أطلق أول تلسكوب فضائي خارج غلاف الأرض، على ارتفاع 600 كم، وحمل اسم الرجل الذي كان مصدر الإلهام، «تلسكوب هابل»، قطر عدسته 2.4 متر، تمكن من تصوير آلاف المجرات في بقعة سماوية نائية كانت تبدو بجم رأس الدبوس.
خلال القرن الماضي ظهرت النسبية، والنسبية العامة التي حاولت تفسير قوى ونظام الكون، وفهم كيفية عمله، من خلال الفيزياء، ثم جاءت فيزياء الكم، ونظريات الأكوان الموازية، والأوتار الفائقة، واكتشفت الثقوب السوداء، وغيرها، لتقدم تفسيرات أشمل، وأكثر تطوراً، لكن العلماء ظلوا عاجزين عن صياغة نظرية تجمع قوى الكون الأربع في معادلة واحدة، وتعطي تفسيراً قاطعاً لنظامه، وأصله، وتفهم حدوده، وتتنبأ بمصيره.

كل هذه الأسئلة يحاول العلماء الإجابة عنها من خلال منشآت علمية عملاقة، أهمها مسرّع «سيرن» على الحدود الفرنسية السويسرية، ووكالات الفضاء الأوروبية والروسية والصينية واليابانية، وأهمها ناسا الأميركية، ومحطة الفضاء الدولية، ومجموعة التلسكوبات العملاقة الموجودة في أكثر من مكان، وعشرات الجامعات والمراصد الفلكية. لكن الآمال الآن معلقة في مكان بعيد جداً عن الأرض: تلسكوب «جيمس ويب».
إذاً، القفزة الثالثة والأهم في علوم الفضاء والفيزياء تمثلت بإطلاق تلسكوب «جيمس ويب»، في 2021، بقدرة رصد لا مثيل لها وبدقة غير مسبوقة، وحساسية عالية للإشعاعات، وبمرآة قطرها 6.5 متر. وعلى بعد 1.5 مليون كم من الأرض (أبعد من القمر بأربع مرات). وبدقة صور تفوق مائة مرة صور تلسكوب هابل.
وستكون لتلسكوب «ويب» قدرة على تنفيذ 266 مهمة بحثية اختيرت من قِبل علماء متخصصين في 41 دولة حول العالم، وسيقضي من أجلها ستة آلاف ساعة عمل، ستتوزع تلك المهام بين دراسة المجرات، والكواكب التي قد تحوي أشكالاً من الحياة، ودراسة الفيزياء الفلكية، والمجموعة الشمسية.
وقد انتظر العلماء بفارغ الصبر أولى الصور التي بثها التلسكوب، والتي وصلت في 11 تموز، لكنها ستحتاج وقتاً طويلاً على أمل التوصل إلى إجابات عن أسئلة طالما حيّرت العلماء، وقد تغيّر، أو تصوّب، الكثير من النظريات العلمية السائدة حالياً. وقد تؤسس لعلم جديد، وبمنظار مختلف لكل ما يتصل بفيزياء الكون.
مبدئياً، أظهرت تلك الصورة عدداً هائلاً من النقاط المضيئة، وكل نقطة عبارة عن مجرة كاملة، وبداخل كل مجرة مليارات النجوم، وأضعافها من الكواكب والأقمار، ما يعني أن عدد المجرات ربما يكون أكبر بكثير من العدد المفترض، وأن حجم الكون أضخم مما كنا نتخيل.
طول جميع الشواطئ في العالم 300 مليون متر، وعرضها في المتوسط 50 متراً، وعمقها بحدود 25 متراً، ما يعني أن شواطئ العالم مجتمعة تحتوي على 375 مليار متر مكعب.
حجم حبة الرمل 0.1 مليمتر، ما يعني أن المتر المكعب يحتوي على 10 مليارات حبة رمل، وبالتالي فإن شطآن العالم تضم قرابة 3750 مليار مليار حبة رمل.
وعدد المجرات التقريبي 100 مليار مجرة، في كل مجرة نحو 200 مليار نجم، أي أن الكون يضم في أقل تقدير نحو 20 ألف مليار مليار نجم. يعني أكبر بسبع مرات من عدد حبات الرمل في جميع شطآن العالم.
في الخلاصة، حجم الأرض لا شيء تقريباً، وأقل من أن يؤخذ بالحسبان.. وما علينا إلا أن نتواضع قليلاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى