مقالات الخامسة

عبد الغني سلامة: محاطٌ بالحمقى

شبكة الخامسة للأنباء - غزة

عندما كنتَ في المدرسة من شبه المؤكد أنك اخترت عدداً محدوداً من الأصدقاء، وغالباً اخترتهم وفقاً لمعايير لم تكن منتبهاً لها، كأن تختار من يشاركك المقعد، أو عريف الصف حتى تشاغب براحتك وتنجو من العقاب، أو الأول على الصف فربما يساعدك في حل الواجب أو يغششك في الامتحان، أو اخترت جارك الذي يرافقك رحلة الذهاب والإياب.. ولو سألك أحدهم حينها لمَ اخترت هؤلاء بالذات، ستجيب: لأنني أنسجم معهم، في حين أن الآخرين حمقى، أو غريبو الأطوار.
وفي الحارة “التحتا” التي تسكنها ستشكل مع أقرانك ما يشبه الحلف ضد الأولاد في الحارة “الفوقا”، وإذا جرت مباراة في كرة القدم بين مدرستك ومدرسة أخرى، حتماً ستشجع مدرستك، وربما ترجم الفريق الخصم بالحجارة إذا اقترب من الفوز.
وهنا سيتشكل في وعيك العميق أن بقية طلبة المدرسة (باستثناء أصدقائك المقربين)، وأولاد الحارة الفوقا، والفريق الخصم، إما أعداء، أو حمقى في أقل تقدير.
في الجامعة ستتقرب من أبناء محافظتك، أو طلبة الكلية التي تدرس فيها أو الطلبة الذين ينتمون لنفس حزبك السياسي، وقد تنتقي أصدقاء من خارج هذه الدوائر، ولكن بحذر، فالذين لا تعرفهم تفرقك عنهم حواجز نفسية عديدة.
وفي العمل ستختار أصدقاء من نفس الدائرة، أو من نفس الطابق.. حيث العلاقات في أجواء العمل تسودها روح المنافسة، أو الغيرة والحسد، وهي غالباً علاقات حذرة ومحدودة.
في الحالات السابقة، والحالات الأخرى في مناحي الحياة كافة، كنتَ تنطلق من معيار محدد في اختيار الأصدقاء، وهو الحكم والتصنيف؛ أي أنك نصّبت نفسك قاضياً؛ فأصدقاؤك محبوبون وأذكياء، بينما الآخرون تربطك بهم علاقة باردة أو عدائية، وأغلبهم في نظرك حمقى، لا يستحقون صداقتك.. وفي كل مرة كنت تضع نفسك في المركز، فالذي يشبهك في التصرف وطريقة التفكير والآراء هو شخص جيد ويصلح للصداقة.. ومن لا يشبهك في طريقة التفكير، ولا يتشارك معك في نفس الهواية، وله آراء وتوجهات مختلفة أحمق وجاهل.. وقد نسيت أن تحكم على نفسك أولاً، فمثلاً قد تنفر من شخص ما لأنه في نظرك سلبي، ومتذمر، ودائم الشكوى.. بينما هو يراك عديم الشفقة، ومستمعاً غير جيد، وأنانياً.
بالطبع من حق كل إنسان أن يختار أصدقاء يشبهونه وينسجم معهم ويتفق معهم فكرياً وسياسياً.. هذا طبيعي ومشروع، وجميع الناس يمارسونه.. لكن الذي يعادي الآخرين ويصفهم بالحمق بسبب اختلافهم في التفكير والآراء هو غالبا الأحمق، لأنه رأى العالم فقط من خلال شخصه وذاته المتورمة، ولأنه لم يحاول، فهمهم أو التعرف عليهم..
هذه المنطلقات في الحكم على الآخرين، تظل مغروزة في عقلنا الباطن، ونمارسها بأشكال عديدة، فمثلاً أقاربنا، وأفراد عشيرتنا، وأبناء طائفتنا، هم أناس طيبون، ويستحقون الحياة، ويجب الدفاع عنهم في كل الأحوال.. وحزبنا الذي ننتمي إليه دائماً على صواب، بينما بقية الأحزاب كذابة ومضللة.. وديننا هو الدين الحق، وما دونه باطل.. وقائد الحزب وزعيم الطائفة وشيخ العشيرة لا يخطئون، ولا يكذبون، ويجب اتباعهم مهما قالوا، ومن السهولة تبرير أي قول أو ممارسة تصدر عنهم مهما بدت شاذة.
هذا يحدث عادة، ومن النادر جداً أن نجد شذوذاً عن هذه القاعدة.. والسبب أننا تربينا منذ الصغر في وسط العشيرة، أو داخل الحزب، أو انتمينا لهذا الدين أو ذاك، ولم نعرف غيرهم، لم نسمع ما يقوله الآخرون، ولم نحاول فهمهم.. فكل ما هو مختلف عنا مرفوض، وأي فكرة تختلف عمّا نشأنا عليه مدانة.. ونحن دائماً أهل الحق، وعلى الصواب! والعلاقة مع الآخر دوماً حذرة، يشوبها الشك والريبة، ومبطنة بالعداء..
لذلك، عندما تريد جهة خارجية معادية إسقاط مجتمع ما، وهزيمته، فما عليها سوى اللعب على هذه الأوتار، أي إثارة النعرات القبلية، والطائفية، والدينية.. فكل حزب وقبيلة وطائفة معبأة سلفا بأن خصومها حمقى، أو كفارا وضالون وغير جديرين بالحياة، وهم دائماً على أهبة الاستعداد للهجوم عليهم، بكل قوة، وبلا رأفة.. وفي هذه الحالة تسود ثقافة القطيع، وتغيب العقول، وتنمحق فردانية كل شخص، لتذوب في القبيلة أو الطائفة، فيتساوى المثقف مع العامي، والطيب مع الشرير، وأستاذ الجامعة مع راعي الغنم.

هذه النزعة تتخذ تمظهرات عدة، وتتطور لأشكال خطيرة، وتصبح شكلاً من العنصرية.. ومشكلة العنصرية في التعميم، أي أنها تطلق على الآخر حكماً عاماً وشاملاً.. كأن تصف شعباً كاملاً بصفات معينة.. أو تصف عرقاً بأحكام مطلقة، أو أتباع ديانة ما.. دون الأخذ بالاعتبار الفروقات والتباينات بين الأفراد والشرائح والطبقات، والفروقات التي تمليها تغيرات الأزمنة والظروف.. فليس هناك شعب جيد أو شعب سيئ.. بالرغم من وجود سمات مشتركة في الأغلب.
وهذه العقلية تمارس نفس الخطأ على المستوى الفردي، أي في التعامل مع الأشخاص والحكم عليهم، فترى الشخص بهوية وحيدة مطلقة، علما بأن هذا غير صحيح. فالأشخاص، كما هي الشعوب، لهم صفات وهويات عديدة ومتداخلة ومتشابكة، وهذه أيضاً غير ثابتة، فقد تتغير وتتطور، فتطغى صفة أو هوية على الأخريات في مرحلة ما، ثم تختفي وتتوارى، وهكذا.. فالإنسان ليس كتلة صماء، ولا هو بنية جامدة.. هو تركيبة معقدة من الأفكار والأحاسيس والمشاعر والصفات الظاهرة والباطنة.
والمشكلة أننا نكتفي بالظاهر من الصورة.. فليس هناك شخص رائع بالمطلق، أو إنسان سيئ بالمطلق.. رغم وجود سمة عامة للشخص.
للتخلص من هذه الآفة، فكر بعقلية نقدية واعية، وبقلب إنسان محب.. ولا تنصّب نفسك قاضياً ومصلحاً.
لسانك لا تذكر به عورة امرئ، فكلك عورات وللناس ألسنُ.. (الشافعي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى